التسميات

الأربعاء، 17 يوليو 2013

النقود الملوثة .. من كتاب أفكار وخواطر للدكتور فتحي أبو القاسم الغماري



مشهد مثير

   مجموعة سيارات نقل تصل إلى الموقع، وهو عبارة عن ساحة كبيرة واقعة في وسط المدينة و مكتظة بالسكان والمارة. الساحة مزدحمة بالمارة من جميع الطبقات: الموظفون بمختلف درجاتهم.. مهندسون.. أطباء.. ممرضون.. عمال.. تجار.. ضباط شرطة وضباط جيش.. رجال ونساء على اختلاف أعمارهم. بعضهم يرتدي أحلى الأزياء والملابس الأنيقة من بدل فاخرة وفساتين من أجود الأقمشة. البعض يحمل عكازاً والبعض الآخر حقائب رجال الأعمال.. وآخرون يحملون السبح في أيديهم. وشباب في ملابس الجينز والملابس الرياضية.. في الحقيقة جميع شرائح المجتمع ممثلة في هذه الساحة.
   يبدأ بعض العمال في تفريغ سيارات النقل.. ويباشر فنيون في تركيب ووصل قطع من الأنابيب وأقمشة من المشمع الغليظ. يتعجب المارة من ذلك المنظر ولكن أحدا منهم لا يكترث.
   بعد ساعات يكتمل البناء.. وهو عبارة عن حوض كبير في وسط الساحة. وتصل الآن سيارات نقل مياه المجاري وسيارات نقل القمامة ثم تبدأ في تفريغ حمولتها في الحوض الكبير.. وتنبعث رائحة كريهة تعم جميع أنحاء المنطقة.
   يبدأ الناس في إبداء امتعاضهم والتعبير عن اشمئزازهم من هذا المنظر المؤذي ومن هذه الرائحة الكريهة. الكل يسد فتحتي أنفه بأصابعه حتى لا يشم تلك الرائحة النفاذة.
   تواصل السيارات تفريغ حمولتها، و يبدأ الناس في الاحتجاج العلني، وترتفع أصوات المحتجين وتهديداتهم. وفيما يتم استدعاء رجال الشرطة.. ومن بينهم كبار ضباط المدينة.. يصرخ أحد ضباط الأمن منادياً " من المسئول عن هذه الفوضى ؟"
   لا أحد يرد.. والجميع يكيلون الشتائم للعاملين على تفريغ الحمولة النتنة في الحوض الكبير.
   بعد قليل تصل سيارات فخمة سوداء وبيضاء وينزل منها رجال محترمون تبدو عليهم الجدية.. وفي أحسن لباسهم.. يحملون حقائب كبيرة وكثيرة جداً وهم يشقون طريقهم بصعوبة عبر الحشود البشرية التي بلغ عددها المئات حول الحوض.. يساعد رجال الشرطة الرجال في الوصول إلى الحوض.
   يبدأ الرجال في تفريغ محتويات الحقائب في الحوض المملوء بمياه المجاري والقمامة.. مئات الآلاف من الأوراق النقدية من فئة المائة دولار وعملات صعبة أخرى تملأ الحوض أضيفت إليها آلاف القطع الذهبية والأحجار الكريمة، و يقف الحشد مشدوهاً. ينظر الناس بعجب شديد.. وهم لا يزالون يسدون أنوفهم حماية من الرائحة الكريهة. ويمتلئ الحوض بالأوراق النقدية والمعادن الثمينة. ينظر الرجال بعد الانتهاء من تفريغ الحقائب إلى الحشود المتجمعة في الساحة ويشيرون إليهم.. ما إذا كانوا يريدون التقاط بعض النقود.. من الحوض.
   ينظر إليهم الناس باستغراب وتعفف ولا يكادون يصدقون.. ولكن!.. تقترب مجموعة من الناس المحترمين من الحوض .. يبعدون أيديهم عن أنوفهم.. يخلعون ستراتهم.. وأحذيتهم ويقفزون إلى داخل الحوض.. ثم يبدؤون في جمع الأوراق النقدية.
 

  يراقبهم الآخرون عن كثب، ثم أخذ يتبع بعضهم بعضاً و يقفزون في الحوض.. ويجمعون النقود.
   ازدحمت البقية الباقية من البشر حول الحوض.. وقفز المئات منهم إلى داخله بملابسهم دون أن يخلعوا أحذيتهم.. فيما صارت العكاكيز والسبح ملقاة على الأرض، و أطفال هنا وهناك تركهم ذووهم يصرخون من الخوف ومن تأثير ركلات الجماهير المتسابقة.
   يمتلئ الحوض بالبشر.. الكل يسعى إلى جمع أكبر عدد ممكن من الأوراق النقدية.. المحتاج منهم وغير المحتاج.. وينسى هؤلاء جميعاً مياه المجاري وما فيها من مواد عضوية تكسبها الرائحة الكريهة والمنظر غير المقبول. وينسون القاذورات المختلطة مع النقود.. لا يهمهم سوى جمع النقود حتى وهي مشبعة بمياه المجاري والأوساخ والرائحة الكريهة والجراثيم والميكروبات..
   فجأة يتحول التعفف إلى طمع ورغبة جامحة في الحصول على النقود حتى وهي ملطخة بالأوساخ و تصبح رائحتهم أيضاً كريهة إلى أبعد الحدود.. ولكن لا يهم.. فإنهم يعتبرون أنفسهم أكثر حظاً من أولئك الذين بقوا بعيداً عن الحوض.. إما بسبب التعفف أو لعدم قدرتهم على شق الطريق الوعر إليه.
   يتم التقاط جميع الأوراق النقدية الطافية على سطح الماء ويبدأ الناس في الغطس إلى أعمق أعماق الحوض.. للوصول إلى النقود العائمة في الماء وتلك التي ترسبت في القاع مع قطع الذهب والأحجار الكريمة. ويشرب كثير من الغاطسين من الماء الملوث.. ولا يعيرون اهتماماً لطعمه ورائحته النتنة.
   يضرب بعضهم البعض أثناء جمع الثروة.. تسيل الدماء وتختلط بمياه المجاري.. يغرق البعض ويلاقي حتفه.. ويزيد عدد السابحين بالرغم من ذلك.. وينضم إليهم أناس آخرون و ما أن يأتي المساء حتى يكون الحوض قد خلا تماماً من النقود.. و به بعض الجثث الطافية ولون الدم الأحمر قد أضاف بعداً جديداً لمنظر الماء في الحوض.
   يسأل بقية الموجودين .. وغيرهم.. "هل هناك أحواض أخرى ؟
أين هي إذاً !!؟"
   ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق