التسميات

الجمعة، 27 فبراير 2015

حكاية الأعرابي والثلاثة أبناء

أعرابي كان عنده ثلاثة من الأبناء

 
رجل صالح من الأعراب كان عنده ثلاثة من الأبناء وكان اسمهم جميعا عبد الله وهـــــــو على فراش الموت يقول لأولاده الثلاثة عبد الله يرث وعبد الله لا يرث وعبد الله يــــــــرث ثم يلفــــظ أنفاسه الأخيرة فاحتار الأبناء الثلاثة كيف يصنعون ومن منهم الذى لايرث فقالـــــوا نذهب إلى قاضى المدينة وفى طريقهم قابلهم أعرابى  كان قد فقد بعيره فسألهم إن كانـــــــــوا قد رأو البعير فقالوا لم نربعيرك ثم سأله أحدهم هل كان جملك أعور قال الأعرابى نعم فقــــال الآخر هل كان جملك أبتر فقال نعم فقال الثالث هل كان جملك أزور فقال الأعرابى نعم فقالــــــوا جميعا لم نر جملك فظن الرجل أنهم رأوه ويخدعونه فقال لهم والله لن أترككم إلا عند القاضىفانطلقوا جميعا إلى القاضى وعندما أتوه قصوا عليه الخبر فسألهم هل رأيتم بعير الأعـــــرابى فقالوا لا فسألهم عن المواصفات التى أدلو بها لصاحب البعير فسأل من قال أن البعير أعــــــور كيف عرفت فقال إنى رأيت العشب مأكول من ناحية واحدة فعلمت أن الجمل أعور فسأل مـنقال انه أبتر فقال البعير ينثر البعر فى العادة لوجود الذيل أما هذا فرأيته جعلها أكـــواما أكـــواما فسأل من قال بأنه أزور فقال أيها القاضى رأيت خطواته أحدها يغــوص فى الأرض ويتــــرك أثرا عميقا فقال القاضى للأعرابى إذهب يا رجل جملك ليس عندهم فقصوا عليه خبرهم وما قالـه أبوهم فى ميراثهم فقال القاضى تبيتون عندى الليلة وفى الصباح أحكم  بينكم فأدخلهم غرفة وأمر لهم بطعام فما أن دخلوا حتى قال أحدهم إحذروا إن هذا القاضى قد وضــــع لكـم عينا تراقبكم وعندما قدم لهم الطعام قال أحدهم لا تأكلوا والله إن هذا اللحم لحم كلاب وقال الآخر التى خبزت هذا الخبز حامــــل فى شهرها التاسع فقال الثالث والله إن هذا القاضى إبن حـرام فنقل حديثهم إلى القاضى فلما جاء الصباح وجلس القاضى فى مجلس القضاء سألهم عما قالوهفسأل من قال أن اللحم لحم كلاب كيف عرفت فقال : أيها القاضى إن هذا اللحم وجدنا فيه العظم ثم الشحم ثم اللحم أما لحوم الإبل والغنم وما نأكل من النعم يكون فيها العظم ثم اللحم ثم الشحم فسأل القاضى من قام بالطبخ فقال لقد تأخر الراعى وقد أمرت بتقديم الطعام للأضياف فماو جدت غير كلب فذبحته لهم وقلت إنهم أعراب لا يعلمون شيئا فسأل من قال أن التى خبزت الخبز حامل فى الشهر التاسع فقال  إنى رأيت الرغيف منتفخ من ناحية  ومصفد من ناحية أخرىفعلمت أن من خبزته حامل فى الشهر التاسع فلم تستطع أن تمد يدها لتقلب الرغيف من كبر بطنهافسأل القاضى عمن خبزت فقالوا له إنها فلانة وهى حامل فى الشهر التاسع فسأل الثالث من قال بأن القاضى ابن حرام فقال أيها القاضى قلت إن رجل يضع على أضيافه عين تراقبهم ويقدم لهم لحم كلاب والله إنه لابن حرام فأراد القاضى ان يتأكد من هذه هى الأخرى
 فسأل أمه عن نسبه وعن أبوه  فقالت إنه ليس أبوك  وقد صدق الأعرابى وعندها نطق القاضى بالحكم فقال أما من قال أنه لحم كلاب فإنه يرث ومن قال بأن
التى خبزت الخبز حامل فإنه يرث أما أنت يا من قلت أنى ابن حرام فإنك لا ترث لأنه لا يعرف ابن الحرام إلا ابن حرام مثله فأراد الأخوة الثلاثة أن يتأكدوا من صدق كلام القاضى فرجعوا إلى أمهم فسألوها عن أخيهم فقالت صدق والله فإن أباكم قد وجده على باب مسجد فأتى به ورباه معكم...................تحياتي //عبدالسلام بوزعكوك

الخميس، 26 فبراير 2015

الأفوكادو وفائدته للقلب

الرئيسية / الصحة / الفاكهة التي تقي الأنسان من خطر التعرض للأزمات القلبية
الفاكهة التي تقي الأنسان من خطر التعرض للأزمات القلبية

الفاكهة التي تقي الأنسان من خطر التعرض للأزمات القلبية



 
يمكن لكل من يعاني من ارتفاع نسبة الكوليسترول في الجسم وفقاً لأحدث بحث علمي أن يقلل من مستويات الكوليسترول وتحسين مستواه في الجسم للوقاية من خطر التعرض لأزمات قلبية مميته ، وذلك عن طريق تناول ثمرة أفوكادو واحدة يومياً.
حيث أشار البحث العلمي إلى أنه بتناول ثمرة أفوكادوا واحدة يومياً سيترتب عليها تحسين مستوى الدهون في الدم والقضاء عليها وخاصة تلك الدهون المرتبطة بزيادة الوزن وأمراض القلب المتفرقة.
ويقول العلماء أن تناول الأفوكادو بشكل يومي يجعله يحل محل الدهون غير الصحية في النظام الغذائي المتبع، وخصوصاً في وجبة الغذاء الرئيسية حيث أنه يمكن دمجه مع السلطة والخضروات والسندويتشات والأطعمة البروتينية الخالية من الدهون مثل الدجاج أو السمك، كما أنه يمكن تناوله مع رقائق الذرة الغنية بسعرات الصوديوم الحرارية.

الجمعة، 20 فبراير 2015

منقول عن ونيس اقويدر
 
‫يحكى أن رجلا خرج في سفر مع ابنه إلى مدينة تبعد عنه قرابة اليومين، وكان معهما حمار وضعا عليه الأمتعة، وكان الرجل دائما ما يردد قول: ما حجبه الله عنا كان أعظم!! وبينما هما يسيران في طريقهما؛ كُسرت ساق الحمار في منتصف الطريق، فقال الرجل: ما حجبه الله عنا كان أعظم!! فأخذ كل منهما متاعه على ظهره، وتابعا الطريق، وبعد مدة كُسرت قدم الرجل، فما عاد يقدر على حمل شيء، وأصبح يجر رجله جرًّا، فقال: ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
فقام الابن وحمل متاعه ومتاع أبيه على ظهره وانطلقا يكملان مسيرهما، وفي الطريق لدغت أفعى الابن، فوقع على الأرض وهو يتألم، فقال الرجل: ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
وهنا غضب الابن وقال لأبيه: أهناك ما هو أعظم مما أصابنا؟؟
وعندما شفي الابن أكملا سيرهما ووصلا إلى المدينة، فإذا بها قد أزيلت عن بكرة أبيها، فقد جاءها زلزال أبادها بمن فيها.
فنظر الرجل لابنه وقال له: انظر يا بني، لو لم يُصبنا ما أصابنا في رحلتنا لكنا وصلنا في ذلك اليوم ولأصابنا ما هو أعظم، وكنا مع من هلك..‬

منقول عن ونيس اقويدر


‫سألونــــــــــــي .. ::
 
ماذا تعلمت من السنين التي مضت ؟!!

فأجبت :-

تعلمت أن من لا خير فيه لأهله لا خير فيه للناس.

تعلمت أقول الحمد الله على كل شيء

تعلمت أن الحياة ممكن تنتهي بأي لحظة و نحن على غفلة

تعلمت أن أعمل الخير و لا انتظر أي مقابل لكي لا أُصدم

تعلمت أن الكلمة الحلوة والنفس البشوشة رأس مال الطيّب

تعلمت أن أغنى إنسان في العالم الذي يملك الأمان و الصحة

تعلمت أن من يزرع الثوم لا يجني الريحان

تعلمت أن العمر ينتهي والمشاغل لا تنتهي

تعلمت أن من يريد من الناس أن تسمعه يجب أن يسمعهم اولا.

تعلمت أن ليس كل الناس على نياتها.

تعلمت أن كثير مما تعلمناه بالمدرسة شيء والواقع شيء آخر.

تعلمت ان معظم الناس يسألون ويتصلون إن كانت لهم مصلحة معك، وإذا انتهت مصلحتهم لا يعرفونك!

تعلمت أن السفر مع الناس يبين لك معادن الناس

تعلمت أن الواحد يشتري أكثر مما يبيع يعني يسمع أكثر مما يتكلم

تعلمت أشوف وأسمع عن مصايب الناس و اقول الحمد الله على كل حال.

تعلمت أن اللي يتفلسف كثير (يقول أنا وأنا) فارغ من الداخل

تعلمت أن اللي معدنه ذهب يبقى ذهب و اللي معدنه حديد يتغير ويصدأ‬

الخميس، 19 فبراير 2015

عمر بن الخطاب في وفاة إبراهيم بن سيد الخلق أجمعين

منقول عن ونيس اقويدر
 
‫نـام إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم في حضن أمه مارية ، وكان عمره ستة عشر شهراً، والموت يرفرف بأجنحته عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام ينظر إليه ويقول له :
يا إبراهيم أنا لا أملك لك من الله شيئاً ..!
ومات إبراهيم وهو آخر أولاده ،
فحمله الأب الرحيم ووضعهُ تحت أطباق التراب ، وقال له :
يا إبراهيم إذا جاءتك الملائكة فقل لهم : الله ربي ..ورسول الله أبي ..والإسلام ديني ..
و نظر الرسول عليه الصلاة والسلام خلفهُ فسمع عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه يُنهنه بقلب صديع .. فقال له :ما يبكيك يا عمر ؟
فقال عمر ، رضي الله عنه ، :يا رسول الله ! إبنك لم يبلغ الحلم .. ولم يجر عليه القلم .. وليس في حاجة إلى تلقين ..فماذا يفعل ابن الخطاب ؟! وقد بلغ الحلم .. وجرى عليه القلم .. ولا يجد ملقناً مثلك يا رسول الله ؟!!
وإذا بالإجابة تنزل من رب العالمين جل جلاله بقوله تعالى رداً على سؤال عمر  
 
" يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرة وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّـهُ مَا يَشَاءُ"
.

الأربعاء، 18 فبراير 2015

عضة رائعة







طلب حاكم من عالم كبير أن يدعو له، 


فقال له: لا تظلم، ولست محتاجاً إلى 


دعائي‬

‫هل المال هو الامان


 
‫هل المال هو الامان
دخل "مُقاتل بن سليمان" رحمه الله على "المنصور" رحمه الله يوم بُويعَ بالخلافة ...
فقال له الخليفة "المنصور" :
عِظني يا "مُقاتل" !
فقال :
أعظُك بما رأيت ,,, أم بما سمعت !
قال : بما رأيت ...
قال : يا أمير المؤمين !
إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدا ً وترك ثمانية عشر ديناراً
، كُفّنَ بخمسة دنانير ، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه ...
وهشام بن عبدالملك أنجب أحد عشر ولدا ً ، وكان نصيب كلّ ولدٍ من التركة مليون دينار ...
والله ... يا أمير المؤمين :
لقد رأيت في يومٍ واحدٍ أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله ،
وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق
وقد سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت :
ماذا تركت لأبنائك يا عمر !
قال :
تركت لهم تقوى الله فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ،،، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى ...
فتأمل ,,,
كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مُستقبل أولاده ظناً منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه :
( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا )‬

الثلاثاء، 17 فبراير 2015

ملخص تاريخ ليبيا


الأربعاء، 20 نوفمبر، 2013


ملخص تاريخ ليبيا للفترة ما بين حوالي 1000 سنة قبل الميلاد إلى وقت إعلان استقلال في 24 ديسمبر سنة 1951م.


تاريخ ليبيا .. لمن يريد أن يبنى مستقبلها

بقلم الدكتور فتحي أبو القاسم الغماري



   القيادة وراؤها إيمان.. والإيمان وراؤه عقيدة .. والعقيدة يجب أن تكون راسخةً رسوخ الجبال ترفع الشعوب الحية إلى مرتبة القيادة... من لا تاريخ له .. لا مستقبل له.. ومن له تاريخ لا يعرفه عليه أن يعرفه.. و متى عرفه وجب عليه أن يدرسه.. وبعد دراسته يكون لزاماً عليه أن يفهمه ويستخلص منه العبر ويتعلم من تجارب القدماء ليتحقق شيء لأجيال المستقبل. وحيث إن الشعوب تصنع التاريخ فإنها إما أن تكون شعوباً قد تعلمت من الماضي لبناء المستقبل أم عليها أن ترضى بأن تعيش في ظل شعوب أخرى منحها الخالق تعالى القدرة على صناعة التاريخ.

   تاريخنا في ليبيا حافل، والشعب الليبي طالما عانى الظلم والقهر والعدوان من قبل شعوب أخرى جاءت لاستيطان البلاد طيلة القرون الماضية. وبما أن التاريخ لم يتم تدريسه في مدارسنا بطريقة صحيحة تؤدي إلى فهمه واستخلاص العبرمنه، سواء إبان العهد الملكي بعد استقلال ليبيا عن الحكم الأجنبي ، أو بعد حركة الأول من سبتمبر التي يطلق عليها أصحابها ( ثورة ) والآخرون ( انقلاب عسكري). الآن وبعد ثورة 17 فبراير دخلنا في مرحلة جديدة. نجحت ثورة الشعب في الإطاحة بحكم عائلة القذافي وأتباعه المقربين ، غير أنها فشلت في تحرير الشعب الليبي من قيود الجهل الذي فرضه عليه النظام الحاكم طيلة 42 سنة من سنوات الظلم والقهر و الحرمان. كما فشلت في تحقيق الأمن والطمأنينة والاستقرار نتيجة الفوضى القائمة على هذا الجهل..


   ما أشبه الأمس باليوم واليوم بالأمس. مع فارق أن المواطنين في الماضي كانوا 
أكثر وعيا وإيمانا وتمسكا بوطنيتهم ودينهم وقوميتهم من اليوم. أدعو المولى عز وجل أن يوفقني في توجيه رسالة مهمة إلى أبناءنا البعيدين كل البعد عن الواقع بسبب بعدهم عن الماضي.

                                                           فتحي أبو القاسم الغماري



   لكي نستوعب الموضوع بالكامل علينا أن نرجع إلى الوراء إلي سلسة تاريخ ليبيا، إلى ألف سنة أو أكثر قبل الميلاد.. حيث كانت قبائل ليبية تعيش على الزراعة والرعي والتجارة , كانت تلك القبائل متفاوتة في القوة و تصارع بعضها البعض ( مثل قبيلة الناسامون  وقبيلة البسيلي اللتان كانا تحاربان بعضهما البعض سنة 450 ق.م. ولأسباب غير واضحة تاريخيا غير أن بعض المؤرخين حددوا السيطرة على طرق التجارة كعامل مهم أدي إلى طرد هذه الأخيرة  تماما من موطنهم في سرت ). نفس الأسباب التي أدت إلى حروب بين القبائل الليبية والفراعنة في مصر.. كما أننا نقرأ في التاريخ عن استعمار حضارات أخرى لليبيا في فترات متعاقبة.. من الفينيقيين إلى الإغريق والرمان والبيزنطيين .. كانت دوافع تلك السياسة الاستعمارية دوافع تجارية عسكرية بين قوتين عظميين .. الفينيقية والإغريقية وترجع إلى أكثر من تسعة قرون قبل الميلاد. وبالرغم من القوة العسكرية الكبيرة لهاتين القوتين .. ومن بعدهما قوة الإمبراطورية الرومانية ، فلم تتعدي سيطرتهم على ليبيا الشريط الساحلى الذي بنو فيه مدنهم المهمة .. قورينا و يوسبيريدس ( بنغازي) ولبدة الكبرى وأويا وصبراتة. استمرت الحروب بين قبائل الدواخل وبين الأجانب المستعمرين قرونا طويلة.. وفي نفس الوقت كانت الحروب قائمة بين القبائل الليبية فيما بينها.. تحاول فيها القبائل القوية السيطرة على القبائل الضعيفة وطردها من مناطق الرعي الخصبة و الطرق التجارية الهامة. و لم تستقر الأوضاع حتى الفتح الإسلامي الذي وحد القبائل على دين الإسلام وعم السلام  منطقة شمال أفريقبا بأسرها باستثناء الفترات التي قامت فيها الحروب بين الفاطميين و الأغالبة ثم بعدها ضد الزيريين ( التابعين لوالى أفريقيا بلكين بن زيري). وقد مرت بليبيا فترة احتلال النورمانديين مدينة طرابلس ومن لعدهم الأسبان وفرسان القديس يوحنا.. ثم جاء حقبة السيطرة التركية في شكل الخلافة العثمانية ( سنة 1551 م ) التي انتهت بعد قرون من الحكم الضعيف، تخللته فترات من الظلم والقهر و التجهيل و الابتعاد عن العلم وانتشر فيها الجور والتعسف ضد المواطنين وسيطر فيها الولاة على القبائل الذين أرهقوهم بالضرائب المرتفعة و كثرت عمليات السبي و السلب والنهب و.. حتى في تلك الفترة لم يتمكن الأتراك من السيطرة التامة على كل التراب الليبي وكانوا يتحصنون في قلاع الساحل فقط .. وبالذات في القلعة في طرابلس.. و ترسل الحملات العسكرية لإخماد أي تمرد من قبل قبائل الصحراء الذين كانوا يثورون بين الحين والآخر بسبب الضرائب المرتفعة التي كان يجبيها الولاة لإرضاء رغباتهم في العيش الرغيد على حساب الشعب. ونحن نعلم من كتب التاريخ أن تلك الفترة.. وخاصة إبان حكم أسرة القره مانلي الليبية.. كانت ليبيا تعيش حالة من الفقر تحاول تعويضها عن طريق تشجيع القرصنة البحرية في المتوسط وفرض الإتاوات على السفن الأجنبية. كما كان القناصل الأوربيين يسطرون سيطرة شبه تامة على مجريات الأمور، عن طريق التأثير في الولاة والحكام القره مانليين. وبعد ضعف الحكم القره مانللي رجعت السيطرة التركية مرة أخرى ولكنها فشلت في إنقاذ البلاد و وأدت الحروب الأوربية ضد الإمبراطورية العثمانية إلى إضعافها مما شجع الدول الأوربية على تقسيم الأراضي الخاضعة لتركيا فيما بينها. وكانت ليبيا قد وقعت فريسة الأطماع الإيطالية بمباركة الدول الكبرى آنذاك.. بريطانيا وفرنسا و أسبانيا و روسيا.

  تاريخ ليبيا الحديث وكيف احتلت إيطاليا ليبيا و كيف كانت حركة المعارضة والمقاومة الشعبية لذلك الاحتلال.

   تطلعت إيطاليا لتكوين إمبراطورية استعمارية مثل فرنسا و بريطانيا ولإحياء الإمبراطورية الرومانية القديمة..فبعد أن احتلت أريتريا والصومال اتجهت إلى شمال أفريقيا.. نحو تونس، غير أن فرنسا كانت سبقتها إليها فاتجهت إلى ليبيا لقرب شواطئها من إيطاليا ولكي تتخذ منها رأس حربة للتوسع في أفريقيا.. عقدت إيطاليا اتفاقا مع فرنسا سنة 1902م  تحتل بموجبه فرنسا مراكش و إيطاليا ليبيا.. كما أخذت موافقة روسيا مقابل عدم معارضتها لتحكم روسيا في المضايق التركية..و بالطبع ضمنت موافقة بريطانيا العظمى وأسبانيا. ثم بدأت تخطط لكي تكون صاحبة مصالح في ليبيا ففتحت فرعا لبنك روما في ليبيا وزادت من بعثاتها التبشيرية و أنشأت المدارس الإيطالية الحديثة وأصبحت قنصلياتها في طرابلس وبنغازي مركزين للنشاط السياسي والدعاية و التجسس على أبناء الوطن.. فأصبحت للإيطاليين العديد من المشاريع التي تحدثوا عن حمايتها. وفي سنة 1911 اختلقت إيطاليا الذرائع الواهية لاحتلال ليبيا و ادعت أمام العالم والشعب الليبي بأنها تريد تحريرها من الحكم التركي ووجهت إنذارا لتركيا بأن انعدام الأمن في ليبيا كان بهدد مصالحها الاقتصادية .. ثم استطاعت أن تحتل السواحل الليبية بسهولة نتيجة لضعف القدرات الدفاعية التركية ولأن تركيا كانت تواجه دول البلقان التي أعلنت الحرب عليها ولانشغالها في الحرب في اليمن، كما أن البريطانيين لم يسمحوا لتركيا بإدخال قوات برية عن طريق مصر التي كانت تحتلها آنذاك. وقد جرت الأحداث كما يلي:

27 سبتمبر م1911: وجهت إيطاليا إنذارا إلى الدولة العثمانية  تتهمها بأنها أهملت الشأن الليبي وبأنها كانت تحرض الشعب الليبي ضد الإيطاليين وتضطهدهم.

28 سبتمبر م1911: أقبل الموعد المحدد لانتهاء الإنذار وكانت السفن الحرية الإيطالية في مياه طرابلس تحمل 39 ألف جندي و 6 آلاف حصان وخمسين مدفع ميدان.

29 سبتمبر 1911: أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا.

3 أكتوبر م1911 وعلى تمام الساعة الثالثة والنصف بدأ قصف طرابلس وإنزال 2000 جندي لاحتلال المدينة.

4 أكتوبر 1911م: استمرار القصف على حصون طرابلس وبدء قصف حصون طبرق بنيران المدفعية وكانت طبرق أول بقعة ليبية يحتلها الإيطاليون... وكانت المقاومة العثمانية/ الليبية ضعيفة للغاية وتنازلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا بموجب معاهدة ( أوشي ) التي تم التوقيع عليها في 15 أكتوبر سنة 1912م.

16 أكتوبر 1911م: قصف مدينة درنة التي نزلت فيها القوات يوم 18 أكتوبر.

17 أكتوبر 1911م: قصف مدينة الخمس .. ويوم 19 أكتوبر قصف مدينة بنغازي و إنزال القوات بها.

26 أكتوبر 1911م: أبعاد أكثر من خمسة آلاف ليبي إلى الجزر الإيطالية.

   ولم يتوقف المجاهدون الليبيون عن مقاومتهم للاحتلال الإيطالي في أي وقت من الأوقات منذ سنة 1912 وحتى  سنة 1933.. ولكي نعرف ضراوة القتال وشدة المقاومة نذكر بأن مرزق و غات لم تسقطا في أيدي الإيطاليين إلا سنة 1930م والكفرة سنة 1931م. وحتى بعد إعدام شيخ الشهداء عمر المختار في  16 سبتمبر 1931م لم تهدأ المقاومة في برقة واستمرت قرابة عامين آخرين على الأقل.

   قام الليبيون بتنظيم أنفسهم وأعلنوا الجهاد ضد الايطاليين منذ البداية وتحت قيادة رجال وطنيون أذكر منهم الآن الشيخ سليمان الباروني نائب جبل نفوسة والشيخ أحمد سيف النصر من زعماء الجنوب والوسط والسيد أحمد الشريف السنوسي ومن معه من السنوسيين في برقة وسآتي على ذكر أسماء أخرى في مقالات لاحقة بإذن الله. سنتكلم المرة القادمة عن التفاصيل المتعلقة بحركة الجهاد إلى حين نيل ليبيا استقلالها سنة 1951م.







   ليس من السهل بأي حال من الأحوال تلخيص كفاح شعب دام عشرات .. بل مئات السنين في سطور قليلة .. وكانت قد كتبت مجلدات عنها من قبل مؤرخين كتاب متمرسين .. غير أنها لم تجد الطريق إلى التمحيص والتدقيق من القراء.. وكان أكثرهم قد أجبروا على قراءتها ضمن مناهج هزيلة في المدارس كتبت لتؤدي إلى غاية دنيئة من الحكام الذين أرادوا أن يفرضوا رأيهم على التلاميذ و الطلاب وهم يعرفون بأن محاولاتهم ستجدي في التأثير على عقولهم اليافعة..

   ذكرنا بأن مقاومة الشعب الليبي للطليان لم تتوقف منذ دخولهم ليبيا كمحتلين وحتى بداية الثلاثينات.. توقفت بعدها لتبدأ مع بداية الحرب العالمية الثانية وحتى هزيمة قوات المحور في شمال أفريقيا. في برقة قاد الجهاد الحركة السنوسية تحت قيادة السيد أحمد الشريف السنوسي في البداية ولاحقا تحت قيادة السيد محمد إدريس المهدي السنوسي.. وخاض المجاهدون معارك طاحنة كبدوا فيها الإيطاليين خسائر فادحة في المعدات والأفراد بالرغم من قلة تسليح المجاهدين ، اللهم من الإيمان الراسخ بالله وحب الوطن مع توفر الرغبة في الاستشهاد في سبيل تحرير الوطن. و كان من نتيجة تلك المقاومة الشرسة تأخير سيطرة الإيطاليين بمناطق الدواخل حتى بداية الثلاثينات بالرغم من وجودهم في ليبيا منذ سنة 1911م. وفي غرب ليبيا قاد حركة الجهاد رجال وطنيون من أمثال الشيخ سليمان الباروني و رمضان السويحلي وسوف المحمودي والمريض و عبد النبي بالخير.

فيما يتعلق بحركة الجهاد في الغرب الليبي سنتوقف عند بعض المحطات الهامة.

رجع  الشيخ سليمان الباروني من الأستانة عاصمة دار الخلافة العثمانية  إلى مصراته بعد غيابه المفاجئ من طرابلس  تحمله غواصة ألمانية في 16 أبريل 1916  بعد أن أصدر السلطان فرمانا سلطانيا بإلحاق طرابلس بتركيا. وكان الأتراك والألمان قد عقدوا العزم على إذكاء نار الثورة في طرابلس واستئنافها في برقة.  وحيث كان الطرابلسيين محتاجين للمساعدة فقد رحبوا وفرحوا بها. قام الشيخ الباروني بتشكيل المجلس العرفي الشرعي كجزء من الإجراءات الإدارية والمالية ليتمكنوا من حل القضايا الجنائية والشرعية المعلقة بسبب الحرب و للإشراف على قيادة وتنظيم المجاهدين لمواجهة تحركات الجيوش الإيطالية وفي إطار التنظيمات الإدارية للولاية. وضم المجلس في عضويته ممثلين عن الجبل والمنطقة الغربية و مصراته والنواحي الأربع و ورفلله.

   كانت الأوضاع العسكرية في تلك المرحلة تميل لصالح المجاهدين وقام الباروني بتوجيه رسائل إلى الأعيان والمشايخ يخبرهم بقدومه والمهمة الملقاة على عاتقه. كما وجه رسالة إلى السيد محمد إدريس السنوسي طالبا منه العمل على سحب القوة البرقاوية التي جاءت واحتلت قصر سرت في مهمة لقتل الفتنة التي اشتعلت بين السويحلي و ترهونة.

   كانت تركيا حريصة على دعم ثورة ليبيا في تلك الأيام، ولذلك أرسلت الأمير عثمان فؤاد إلى مصراتة قائداً عاما بدلا من الباروني في شهر مارس 1918م وبصحبته البارون فريد فون توندروف الألماني مع فريق فني. كان الأمير يحمل لقي القائد الأعلى للقوات الأفريقية. وكانت مهمته تغذية الثورة في طرابلس ضد الطليان والعمل على تمديدها إلى برقة بعد نجاحها  ومن ثم الإغارة على الإنجليز في مصر مرة ثانية. كما كانت تلك السياسة تنطوي على إحياء فكرة جمهورية شمال أفريقيا التي قامت من أجلها ثورة الحامد في تونس 1915م، وكان نشاط الطرابلسيين العامل الذي شجعهم على المضي في العمل أجلها. غير أن الفرنسيين أخمدوا تلك الثورة بوحشية وقضوا على فكرة جمهورية شمال أفريقيا التي اعترفت بها بعض دول أوربا وتم تسجيلها في محكمة لاهاي الدولية.

   كانت الحرب قائمة على قدم وساق في شبه الجزيرة العربية بين العرب والإنجليز من جهة والأتراك من جهة أخرى  ،ـ رجحت بعدها كفة الإنجليز على الأتراك.. واشتد ضغط الجيوش العربية والانجليزية عليهم في الشام وهزموا المرة تلو الأخرى وتحطمت جيوشهم واضطرت تركيا إلى توقيع معاهدة ( موندروس ) في 31 أكتوبر 1918تعهدت فيها بسحب جيوشها من جميع البلاد.. وفيما يتعلق بطرابلس جاء في المادة 17 ما يلي:

   ( يجب على جميع الضباط الأتراك في طرابلس الغرب أن يسلموا أنفسهم إلى أقرب مركز إيطالي. ويجب على تركيا أن تقطع الأرزاق و المساعدات وكل صلة مع هؤلاء إذا لم يذعنوا ويسلموا).

كما جاء في المادة 19 :  ( تسليم جميع الموانئ في طرابلس و مصراته إلى أقرب قائد لجيش الحلفاء).

كانت هذه المعاهدة آخر سلاح لقطع الصلة بين العرب والترك وانتهت بها الصبة بينهم وبين الدولة العثمانية التي تفككت أوصالها.

كان لسقوط تركيا الأثر السيئ على حركة الجهاد في طرابلس وأدى إلى إخماد جذوة الحماس كما هبطت الروح المعنوية لديهم وباتوا لا يعلمون ما تخبيه لهم الأقدار.  وكان ذلك السبب الرئيسي في ظهور فكرة الجمهورية الطرابلسية ونوقشت من قبل صفوة السياسيين في ذلك الوقت ومن بينهم رمضان بك وعزام بك والباروني باشا والأمير عثمان  و مختار بك كعبار ووافق الجميع على الفكرة و أرسلت الدعوات إلى شيوخ وزعماء القبائل باسم الأمير عثمان لعقد اجتماع عام في مسلاته.. وعقد الاجتماع في جامع المجابرة بمسلاته وخطب فيهم عبد الرحمن عزام بك نيابة عن الأمير عثمان وتمت الموافقة على الجمهورية وأجريت انتخابات في الحال لاختيار أعضاء الجمهورية وأسفرت الانتخابات عن الآتي:

1 – تشكيل مجلس إدارة الجمهورية: من أربعة من أقوى الزعماء نفوذا على سكان مناطقهم: سليمان الباروني، أحمد بك المريض، رمضان بك السويحلي، عبد النبي بك بالخير. كما انتخب مختار بك كعبار مراقبا ماليا( وكان أحد نواب طرابلس في البرلمان العثماني باسطنبول) و الأستاذ  عبد الرحمن بك عزام مستشارا لشؤون الجمهورية.

2 – مجلس شورى الجمهورية: شبيهة إلى حد كبير مجالس النواب والشيوخ في البلاد المتقدمة ومؤلف من 24 عضوا ضم كافة أعيان الجهات من فزان جنوبا إلى العجيلات شمالا، ومن سرت شرقا إلى نالوت وغدامس غربا. كما تم اختيار كل من الشيخ محمد بك سوف زعيم قبيلة المحاميد وحفيد غومة المحمودي رئيسا لمجلس الشورى السيد يحي بك الباروني ..شقيق سليمان بك الباروني نائبا له.

3 – مجلس الجمهورية الشرعي: يستمد أحكامه القضائية من الفقه الإسلامي وأحكامه على مذهب الإمام مالك  وعرف وتقاليد البلاد.

   الجمهورية الطرابلسية والأسباب التي أدت إلى فشلها و مراحل الجهاد في برقة بقيادة الحركة السنوسية وكيف تمت مبايعة السيد محمد إدريس المهدي السنوسي أميرا على كل البلاد والأسباب التي أدت إلي تلك المبايعة من جموع الشعب الليبي متمثلة في قياداته السياسية الواعية.  

      بعد إعلان الجمهورية الطرابلسية ، وكان ذلك في يوم 16 نوفمبر سنة 1918م، أذيع البلاغ الأول على أبناء الشعب الطرابلسي . ثم أذيع البلاغ الثاني إلى الضباط الوطنيين، والبلاغ الثالث إلى رئيس الحكومة الإيطالية، طالبين عقد صلح مع الحكومة الإيطالية ضمن شروط معينة، وأرسلت البلاغات الرابع والخامس والسادس إلى كل من الرئيس ولسون ورئيس الوزراء البريطاني ورئيس الجمهورية الفرنسية والتي لم تجدي في الحصول على اعتراف أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالجمهورية الجديدة. أما إيطاليا فقد مارست القوة ضد الطرابلسيين ولكن بدون جدوى واضطرت للدخول في مفاوضات معهم انتهت بانعقاد صلح  (سواني بن يادم ) يوم 17 أبريل سنة 1919م .واعتبر الطرابلسيون ذلك نصراً سياسيا وعسكرياً على خصمهم العنيد المتعجرف. أصدرت إيطاليا بعدها القانون الأساسي الذي جعل الفرد الطرابلسي في مصاف الفرد الإيطالي في الحقوق السياسية والاجتماعية .. من الناحية النظرية، واستنكر غرسياني القانون واعتبره انتقاص لسيادة  إيطاليا على طرابلس. وكان القانون أو الدستور يتكون من أربعين فصلا، غير أن قواعده الأساسية ارتكزت على 16 مادة منها ( وننقل النص حرفيا ):

1 – تسمى الحكومة ( حكومة طرابلس الغرب ).

1 – يدير أمور قطر طرابلس مجلس حكومة مؤلف من ثمانية أعضاء وطنيين ينتخبهم مجلس النواب الطرابلسي من بين أعضائه، و من عضوين إيطاليين  ينتخبهم النائب العام.

3 – يرأس هذا المجلس حاكم عام بيده السلطات الملكية والعسكرية معين من جانب ملك إيطاليا.

4 – يسن قوانين البلاد مجلس ينتخبه الأهالي ، يتمتع بما لمجالس الدول الأخرى المتمدينة من سلطات حقوق وتكون مدته أربع سنوات، كلما جدد انتخابه جدد مجلس الحكومة من بين أعضائه.

5 – لا تنفق ضرائب البلاد إلا فيها حسبما يقرره مجلس نوابها في وصفها وتوزيعها و جبايتها.

6 – لا يطبق من القوانين الإيطالية في طرابلس إلا ما يقبله مجلس النواب الطرابلسي ويوافق عليه لمصلحة البلاد.

7 –ينظم من أبناء البلاد جند وطني بالتطوع حسبما تقتضيه الحاجة، وقائده هو الحاكم العسكري.

8 – للوطنيين حق التوظيف في الوظائف ملكية وعسكرية وقضائية وصحية و غيرها بالامتحان.

9 – التعليم الأهلي حر تحت إشراف الحكومة.

 10 - اللغة العربية رسمية كاللغة الإيطالية.

11 – ينتخب الأهالي رؤساء البلديات في العاصمة والملحقات.

12 – يؤلف مجلس شرعي تستأنف إليه الأحكام الشرعية، وهو يعين القضاة.

13 – للطرابلسيين الحائزين على شهادات عالية الحق في مزاولة المهن الحرة كالطب والمحاماة وغيرها في إيطاليا، كما هو في طرابلس.

14 – الطرابلسي والإيطالي متساويان في الحقوق.

15 – الأوقاف تدار بمعرفة هيئة إسلامية.

16 – تراعى حرية الدين والتقاليد الوطنية الحسنة كما في السابق.

ووقع على هذا الدستور عن الطرابلسيين : سليمان الباروني.. أحمد المريض.. رمضان اشتيوي.. وأحمد الصويعي عن عبد النبي بالخير.

ووقعها عن الجانب الإيطالي: الجنرال ماجور تارديتي، رئيس الدائرة السياسية .. الجنرال باسكانو رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإيطالي.

كانت في نية إيطاليا سرا نقض العمل بهذا القانون الأساسي ولكن تطلبت تلك المرحلة من الحكومة الإيطالية تهدئة الشعب الإيطالي الذي أنهكت دولته جراء الحرب العالمية الأولى وسئم تلك الحروب و الأوضاع المزرية.

   شكلت حكومة وطنية مقرها مدينة طرابلس من ثمانية أعضاء وصدر أمر من الوالي الإيطالي بتعيينهم حسب ما جاء في القانون الأساسي وتكونت من السادة :

عمر بك أبو دبوس ..  أحمد بك اشتيوي.. علي بك الشنطة.. أحمد بك الفسطاوي.. محمد الصويعي بك.. الحاج محمد فكيني بك.. ومحمد بك بن الفقيه حسن.

   ماطل الإيطاليون كثيرا ولم يوفوا بالتزاماتهم مما حدا بالطرابلسيين إلى تشكيل حزب الإصلاح وجريدة اللواء وكانوا يطالبون في مجمله بتفعيل القانون. وكان رئيس الحزب السيد أحمد بك المريض و ضم في عضويته النشطين عبد الرحمن عزام و خالد القرقني وعثمان الغرياني.

   عملت إيطاليا على إثارة الفتن والانقسام بين صفوف الزعماء كما سعت إلى استمالة البعض و تأليبهم ضد البعض الآخر.. وكان أهم ما أرادته إحداث الانقسام بين مصراته و ورفلله وبين ترهونة و مصراته ثم بين زعماء جبل نفوسة. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير، فقامت حرب طاحنة بين الزنتان والأمازيغ استمرت.. مع بعض الانقطاع.. حتى سنة 1921م ،فقد فيها الكثير من أبناء الوطن من الطرفين. واستغل الإيطاليون ذلك النزاع فحركوا جيوشهم للقضاء على الطرابلسيين واحتلوا يفرن في 13 أكتوبر سنة 1922م، وكان معهم عدد كبير من الليبيين العملاء الذين انضموا إلى الجيش الإيطالي، وفي 17 نوفمبر احتلت غريان وبدأت المدن تتساقط أمام الجيش الإيطالي وانتهي الصراع بين مصراته و ورفلله بمقتل رمضان السويحلي في عام 1920م. يقول المؤرخون :ة ( لقد كانت فترة ما بعد صلح بن يادم 1919 من أتعس الفترات التي مر بها التاريخ الليبي المعاصر، فترة سواد يتحاشى المؤرخ الحديث عنها ).

قال الأساذ خليفة التليسي رحمه الله في هذا الخصوص:

( يلاحظ أن هيئة الإصلاح المركزية لم تكن حكومة بالمعنى المفهوم للحكومة، وأن كثيراً من المناطق قد ظلت غير خاضعة لحكمها ونفوذها ، كما أن بعض الزعامات قد ظلت محافظة على موقفها الفردي، وكانت تستقل في كثبر من الحالات بتقدير الوضع السياسي على أساس جهوي وبما تقتضيه مصلحة منطقتها أو مقاطعتها وأحيانا قبيلتها وعشيرتها. مما انعدم معه عنصر الوحدة الوطنية الملزمة بالموقف الموحد، خاصة في هذا الظرف العسير، بحيث بعد الخروج عليه أو التخاذل عنه خيانة تحسب على الخارج أو المتخاذل. وكانت هذه هي الثغرات التي نفذ منها الإيطاليون واستطاعوا استغلالها أحسن استغلال.  وقد فطن الوطنيون إلى الخطر الكامن وراء انعدام توحد القيادة ، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان، ولقد نتج عن ذلك تعدد المواقف واختلاف وجهات النظر وترك الأمر للاجتهاد الخاص، يحدد الموقف ويرسم الطريق، فرأينا بعض الزعماء يعارضون ..عن اجتهاد خاص.. المقاومة المسلحة لإيطاليا عقب نزولها بقصر حمد، ورأينا آخرين يقفون على الحياد، كأن الأمر لا يتصل بهم  من قريب أو بعيد. ورأينا بعضهم بتشبث بأن يكون صاحب الكلمة النهائية في إبرام الهدنة، نظرا لأن الاعتداء واقع على أرضه ( بالمعنى الجهوي). وهكذا تحددت مواقف الزعماء في تاريخنا في كثير من الحالات على أساس جهوي، وكان لكل جهة صاحب يتولى أمرها ويقرر مصيرها ويحدد موقفها، وانعدام القاعدة السياسية قد عرض مواقف الزعماء وشخصياتهم لكثير من الخلخلة والاهتزازات).

   كان هذا هو ما آل إليه الوضع في المنطقة الغربية وسنتطرق في المقالة القادمة إلى تداعيات تلك الأحداث وما صحبها من بيعة للسيد محمد إدريس المهدي السنوسي ليكون القائد الذي تتوحد وراؤه كل الصفوف ضد العدو الإيطالي..

    رأي عقلاء طرابلس وسياسيوها ، بعد التطورات والانشقاقات الكبيرة التي حدثت بين الزعماء، ضرورة الاجتماع لتدارس الأوضاع الراهنة واتخاذ مواقف مشتركة حيالها. وحدث ذلك في مؤتمر عام بمدينة غريان في شهر نوفمبر سنة 1920م. وتم تمثيل كل البلاد الطرابلسية بمندوب باستثناء بلاد الأمازيغ. وانتخبت هيئة من 21 عضواً من بينهم أحمد بك المريض( رئيساً ).. الأستاذ عبد الرحمن عزام ( مستشاراً ).. وعضوية الباقين، و منهم ..محمد بك فرحات.. الصادق بك بالحاج.. عمر أبو دبوس.. الشيخ أحمد الرحيبي..عبد الرحمن زبيدة.. بشير السعداوي.. نوري السعداوي.. مختار كعبار.. وغيرهم .

   كان رمضان السويحلي قد قتل  وسليمان الباروني امتنع عن الحضور بسبب الحرب التي وقعت بين الأمازيغ و الزنتان كما امتنع عبد النبي بالخير عن الحضور بسبب مقتل السويحلي ومثل ورفلله عبد الرحمن زبيدة ومحمد العيساوي. و أسفر المؤتمر عن القرار التالي الهام :

( إن الحالة التي آلت إليها البلاد لا يمكن تحسينها إلا بإقامة حكومة قادرة ومؤسسة على ما يحقق الشرع الإسلامي بزعامة مسلم ينتخب من الأمة ولا يعزل إلا بحجة شرعية وإقرار مجلس النواب، وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بأكملها بموجب دستور تقره الأمة بواسطة نوابها، وأن يشمل حكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة) وقرر المؤتمر إرسال قراراته التي توصل إليها إلى الحاكم الإيطالي في طرابلس و إرسال وفد إلى روما للمطالبة بالتنفيذ.  وسافر الوفد المكون من كل من السادة محمد بك فرحات الزاوي( رئيسا )، محمد نوري السعداوي، الصادق بالحاج، خالد القرقني وعبد السلام البوصيري. استطاع الوفد الاتصال برؤساء الأحزاب السياسية في إيطاليا وأصحاب القرار، وفي نفس الوقت أرسل والي طرابلس وفدا مناهضا لوفد غريان وفشل وفد غريان في تحقيق أي مكاسب سياسية ورجع إلى ليبيا خالي الوفاض.

   اشتدت الفتنة بين طرابلس وبرقة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وساد فتور بينهما دام خمس سنوات حصل خلالها تعد على الأشخاص والأموال، و رأى عقلاء طرابلس الذين لم يرضوا بتلك الحالة أن يصلحوا الأمور وبادر السيد أحمد المريض بإرسال رسالة إلى السيد محمد إدريس السنوسي في برقة بهذا المعنى، وكان رد السنوسي إيجابيا ترتب عليه عقد اجتماع سرت العظيم الذي حضره عن طرابلس كل من السادة :

أحمد بك السويحلي، عبد الرحمن بك عزام، عمر أبو دبوس، محمد نوري السعداوي، الشتيوي بن سالم، الصويعي الخيتوني والحاج صالح بن سلطان.

 وحضر عن برقة كل من السادة :

الشيخ صالح الإطيويش، الشيخ نصر الأعمى، الشيخ خالد القيصة  و الشيخ صالح السنوسي بن عبد الهادي.

خرج المجتمعون بالقرارات الهامة التالية، بعد حمد الله تعالى والصلاة علي رسوله الكريم :

( .... فقد اجتمعنا نحن الموقعون على هذه المعاهدة المفوضون من قبل طرابلس وبرقة ، و قررنا بعد مداولة الفكر المواد الآتية المتضمنة اتفاق القطر الطرابلسي و القطر البرقاوي على الاتحاد والتعاون في السراء والضراء:

1 – يجب أن نوحد كلمتنا ضد عدونا الغاصب لبلادنا وضد المفسدين.

2 – يجب أن يكون عدونا واحداً وصديقنا واحداً.

3 – إن كافة ما وقع بين الطرفين من التجاوز لا يطالب به أحد الآخر إلى أن تستقر الحالة في الوطن، وتتعين وضعية البلاد العمومية. ومع ذلك يجب أن يسعى الطرفان في المسامحة بين العربان، ومن يتعدى بعد الآن فعلى الحكومة التابعة لها أن تعاقبه يما يستحق.

4 – كل من يخالف الجماعة ويدس الدسائس الأجنبية ، على الحكومة المنسوب إليها إعدامه ومصادرة أمواله حسب الشريعة الإسلامية.

5 – يري الطرفان أن مصلحة الوطن وضرورة الدفاع ضد العدو  المشترك تقضي بتوحيد الزعامة على البلاد، ولذلك يجعلان غايتهما انتخاب أمير مسلم تكون له السلطة الدينية والمدنية داخل دستور ترضاه الأمة.

6 – يتخذ الطرفان الوسائل اللازمة لتحقيق هذه الغاية المذكورة في المادة الخامسة ، وأن تكون تولية الأمير بإرادة الأمة.

7 – متى تحققت الغاية المذكورة في المادة الخامسة يجب انتخاب مجلس تأسيسي من الفريقين لوضع القانون الأساسي والنظم اللازمة لإدارة البلاد ، وقبل ذلك ، وتمهيدا لهذه الأعمال ، يجب على الفريقين أن يرسل كل واحد منهما مندوبا للبلدين لأجل أن يشتركا في سياسة البلاد والتدابير المقتضاة للدفاع عن الوطن.

8 – يتعهد الطرفان بأن لا يعترفا للعدو بسلطة، وأن يمنعوه  من بسط نفوذه خارج الأماكن المتحصن بها الآن، وفي حالة وقوع حرب يتضافر الفريقان على حرب العدو، وألا يعقد صلح  أو هدنة إلا بموافقة الفريقين.

9 – إذا خرج العدو من حصونه  مهاجما جهة من الجهات وجب على الجهة الأخرى أن تمد المهاجم بالمعدات الحربية والمال والرجال، وأن تنذر العدو بالكف عن التجاوز وإذا لم يكف تهاجمه بدورها.

10 –تجتمع هيئة منتخبة من أهالي طرابلس و برقة مرتين في كل سنة في شهر المحرم ورجب للنظر في مصالح البلاد.

11 – يشترط أن توافق على هذه المعاهدة كل من حكومة برقة والهيئة المركزية في جهة طرابلس.

12 – مهمة الهيئة المذكورة تأييد العلائق الودية بين الطرفين وتأييد هذه الاتفاقية.

قصر سرت في يوم السبت 22 جمادي الأولى سنة 1340 هجرية ، الموافق 21 يناير سنة 1922م.

   بسبب خوف الحكومة الإيطالية من التقارب الطرابلسي البرقاوي قرر والي طرابلس وولبي احتلال مصراته قيل وصول الليبيون إلى اتفاق في سرت، واحتلوا قصر حمد وبدأ الجهاد من جديد. وحتى يستطيع الإيطاليون كسب الوقت في انتظار المدد من إيطاليا فإنهم اقترحوا عقد مفاوضات مع المجاهدين في فندق الشريف، وفشلت المفاوضات في يوم 10 أبريا سنة 1922م

وكان ظهور الفاشية في إيطاليا مع بوادر قرب استيلائها على السلطة من أقوي العوامل التي شجعت وولبي على التشدد مع المجاهدين. واستؤنفت الحرب من جديد و أصبح الغزاة الطليان يتوغلون في طرابلس مع تراجع المجاهدين أمام ضرباتهم الشرسة.

   رأى الطرابلسيون إرسال وفد إلى الأمير محمد إدريس السنوسي ليبايعوه بالإمارة تنفيذا لما قررته هيئة الإصلاح المركزية في فندق الشريف، وتألف ذلك الوفد من كل من السادة والشيوخ : محمد بن حسن، محمود المسلاتي و الطاهر الزاوي. وصل الوفد مدينة اجدابيا ، مقر الحكومة البرقاوية، في شوال سنة 1340 هجرية وقابل الأمير محمد إدريس السنوسي وأبلغه هدفه الذي جاء من أجله. ولكن الحكومة الإيطالية أرسلت أمندولا.. وزير المستعمرات للدخول في مباحثات مع الأمير محمد إدريس واشترط مغادرة بشير السعداوي ممثل الحكومة  الوطنية الطرابلسية مدينة اجدابيا. وكان الأمير محمد يأمل إيقاف الحرب بين ايطاليا و الطرابلسيين في ذلك الوقت، ولذا طلب من بشير السعداوي وزملائه أن يخرجوا إلى موقع يسمى الطبيل. انعقد الاجتماع في 22 يونيه سنة 1922م وعمل الأمير على إقناع أمندولا بضرورة تهدئة الأحوال في طرابلس، و بعد انتهاء المباحثات أرسل الأمير كلا من صالح الإطيويش و الفضيل المهشهش و أحد أبناء الكزة مع كتاب لبشير السعداوي أخبره فيه عن نتائج مباحثاته مع الوفد الطلياني التي أسفرت عن استعداد إيطاليا للصلح. كما أرسل الأمير كتابا آخر إلى هيئة الإصلاح المركزي بنفس المعنى. غادر بشير السعداوي على إثر ذلك إلى طرابلس فورا لإتمام إجراءات البيعة، وبمجرد وصوله اجتمع بالزعماء في طرابلس و نادى بالبيعة لسمو الأمير محمد إدريس السنوسي مستندا في ذلك إلى أنه لا سبيل إلى الخلاص البتة إلا بالاتفاق والتعاون ضد العدو الإيطالي وكتب بشير السعداوي نص البيعة بنفسه  ثم ذهب بها من مصراته إلى مسلاته ثم إلى غريان حيث كانت هيئة الإصلاح المركزية مجتمعة برئاسة أحمد المريض ، فقرأ عليهم نص البيعة فوافقوا عليها بالإجماع ودون مناقشة.

   ما أن علم الإيطاليون بتلك التطورات ووصول الوفد الطرابلسي إلى مدينة اجدابيا حتى ثاروا وانزعجوا. أعلمت عندها الحكومة الإيطالية الأمير محمد إدريس بأنها لن تتوانى عن  مهاجمة اجدابيا ذاتها. وعندما أدرك ا|لأمير خطورة الموقف بدأ  ببذل قصارى جهده لإقناع الحكومة الإيطالية بأن الطرابلسيين ما قصدوا بما فعلوه سوى حقن الدماء وفض خلافهم مع إخوانهم في برقة. وأن من واجب الحكومة الإيطالية أن توقف اعتداءاتها على الطرابلسيين فضلا عن أن الأمير كان له الحق.. حسب اتفاقية الرجمة التي سنتحدث عنها فيما بعد.. في أن يعرض على الحكومة الإيطالية ما يراه في مصلحة البلاد، كما أن تلك الاتفاقية ألزمت الطليان بأن يأخذوا في اعتبارهم كل ما يبديه الأمير من آراء في ذلك.

  المبايعة    

   تقرر أن يذهب السيد بشير السعداوي بوصفه مندوبا من هيئة الإصلاح على رأس وفد لتسليم كتاب البيعة إلى الأمير محمد إدريس، وكان ضمن هذا الوفد كل من السادة والشيوخ عبد الرحمن عزام، محمد الصادق بالحاج، نوري السعداوي و محمد عبد الملك، ووقع على كتاب البيعة كل من السادة والشيوخ أحمد المريض( رئيس الهيئة)،عبد الرحمن عزام ( المستشار)، ثم أعضاء الهيئة:محمد بن عمر، بشير السعداوي ، حسين بن جابر،محمد فرحات، عبد الرحمن زبيدة، محمد التايب، سالم البحباح، عثمان القيزاني، عمر أبو دبوس، محمد الصادق بالحاج، محمد مختار كعبار، محمد فكيني و الصويعي الخيتوني. كما وقع على البيعة من الأعيان السادة محمد الديب، محمد سوف، عمر ضياء ، على أبوحبيل، حمد القاضي ، محمد القرقني، أحمد السني، البغدادي بن معيوف و محمد الصغير.

نص البيعة للأمير محمد إدريس المهدي السنوسي بالإمارة على ليبيا كلها:

   ( سمو مولانا الأمير الجليل السيد محمد إدريس – حفظه الله و رعاه – أنهى لا يخفى على سموه أن الخلاف ما يزال قائما بينهم و بين الحكومة الإيطالية، وذبك لأن الحكومة الإيطالية وجهت عزمها إلى العبث بجميع حقوقنا شرعيها وسياسيها وإداريها، وجعلت من قوتها مبررا للتصرف في مصيرنا وحقوقنا الطبيعية.ونحن خير أمة أخرجت للناس لا نتحمل ضيماً ولا نرضى أن تضمحل شرعيتنا، ولا أن يتطرق الخلل إلى ديننا القويم كائنا من كان.الأمر الذي حملنا على ركوب الأخطار واقتحام الحروب المتوالية، معتمدين على قوة الحق إلى أن نظفر بتحقيق أمنيتنا القومية ،ألا وهي تأسيس حكومة دستورية  يرأسها أمير مسلم جامع للسلطات الثلاثة، الدينية والسياسية والعسكرية، مع مجلس نيابي تنتخب الأمة أعضاءه، وبهذا يسلم وطننا و يتم أمر ديننا وتصلح أحكام قضايانا ونحفظ شرعنا، وعنعنة تاريخنا الباهر، وهذا لا ينافي ما تدعيه إيطاليا و ما دأبت عليه من خطب رجالها من أنها تحتل ديارنا بينية الاستعمار، وإنما ساقتها دواعي السياسة الدولية في البحر المتوسط، ولو كانت صادقة في دعواها هذه لما عرضت بلادنا للخراب بتوالي الهجمات واستعمال دهائها وقدرتها للتفريق والفوضى و قد حاولت فصل الأمة بعضها عن بعض بطرق مختلفة، وأبى الله إلا أن يجمع كلمة القطرين الشقيقين بأن يلتفا حول أمير واحد يرضيانه، وحيث أن سموكم من أشرف عائلة وأكرم بيت مع ما تجتمع في ذاتكم الشريف من المزايا العالية والأوصاف الجليلة، فإن (هيئة الإصلاح المركزية )الحائزة للوكالة المطلقة من مؤتمر غريان الذي يمثل الأمة الطرابلسية بانتخاب واقع منها لقد وجدت في سموكم أميراً حازماً قادرا على جمع الأمة للثقة العامة محبوباً، فهي لذلك تبايع سموكم أميراً للقطرين ( طرابلس وبرقة )على أن تقودهما إلى ما يحقق أمانيهما الشريفة الإسلامية المنوه عنها. على لأن مبايعتكم كانت مضمرة في كل نفس منذ وقع الاتحاد بين مندوبي القطرين في ( سرت ).. وكان السبب في تأخير تحقيقها طوارئ الحرب  التي طوحت بكل واحد من أعضاء الهيئة ورجال القطر في منطقة شاسعة من المناطق الحربية . و بهذه البيعة إن شاء الله أصبح سموكم الأمير المحبوب للقطرين المباركين، ومتى سنحت الفرصة عند تشريفكم إيانا حسب رغبة الأمة تقام لكم مظاهر هذه البيعة في موكب لائق بسموكم. والله سبحانه وتعالى يمدكم بروح من عنده ويجعل البركة في البيت السنوسي المؤسس على التقوى والصلاح ).

   قبل الأمير محمد إدريس السنوسي البيعة وصافح الأيدي الممدودة  بدون تردد  ورد على كتاب البيعة بتاريخ 22 ربيع الأول سنة 1341 هجرية الموافق 22 نوفمبر سنة 1922م بالخطاب التالي:

   ( وبعد.. فقد تناولت بيد الشكر عريضتكم التي أظهرتم فيها رغبتكم الخالصة في تحقيق غاياتكم التي أجمعتم عليها في مؤتمر غريان وجاهدتم لها جهادا صادقاً بالنفس والثمرات في شخصي، فأخذتها داعياً الله أن يحقق آمال هذه الأمة ويكلل مساعيها كلها بالنجاح. ولما كان اتحاد الوطن و سلامته هما الغاية التي طالما سعيت إليها، وجدت من واجبي أن أتلقى طلبكم بالقبول وأن أتحمل المسؤولية العظمى التي رأت الأمة تكليفي بها، فعلي إذاً أن أعمل بجد معكم، ولكن لا تنسوا أنني بغير إقدامكم وجدكم لا قدرة لي على شيء. إني أعلم أن الحياة الخالدة هي للأمم لا للأفراد، وكذلك الأعمال العظيمة الباقية هي التي تنصرف إلى صالح الجميع، فلذلك أدعوه سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى كل عمل ثمرته للأمة, إذ من حق كل شعب أن يسيطر على شؤونه، والناس منذ نشئوا أحراراً.

   وقد أظهر شعبنا في كب أدواره مقدار محبته للحرية فدفع مهوراً غاليةً، فلا يصح لأحد أن يطمع في استعباده و الاستبداد بشؤونه.

لقد اشترطتم علي الشورى وهي أساس ديننا، وسأعمل على قاعدتها. هذا وقد رأيت أن أقر الأمور على ما هي عليه حتى تجتمع جمعية وطنية لوضع نظام البلاد، فلذلك أوكل إلى الهيئة المركزية – لما أبدت من الحمية والعدل والدراية – إن تستمر على إدارة القطر الطرابلسي، ولي الثقة العظيمة في حكمة رئيسها البطل الحازم أحمد بك المريض ورفاقه والرؤساء الكرام الذين أيدوا مساعي الهيئة المركزية أن يتحملوا مشاق المسؤولية بصبر ، لتثبيت دعائم البناء الوطني الذي  شيدوه، وأسأل الله تعالى أن يمد الجميع بعنايته ويثبت الأقدام ويقهر الأعداء ويمن بالنصر الموعود إنه على ما يشاء قدير ).

   حاول مستشار الأمير محمد إدريس السيد عمر منصور الكيخيا أن يوافق بين سياسة الأمير مع الطليان وحرصه على وحدة الصف واجتماع الكلمة تحت زعامته، وانعقدت اجتماعات ومناقشات، واستمر هذا الميدان مفتوحاً نحو أربعين يوماً، ولم يهتد الباحثون إلى الحل المطلوب إلا بمغادرة الأمير محمد إدريس اجدابيا إلى مصرفي الثاني من جمادي الأولى سنة 1341 هجرية الموافق 2 ديسمبر سنة 1922م.، وكان ذلك السفر بسبب مرض ألم به ونصحه الأطباء بالسفر إلى مصر للعلاج. كانت قبل سفره العلاقات بين السنوسية والطليان قد تعكرت وذبك بسبب حرص الطليان و تأكيدهم على نزع سرح العربان، كما تم اعتقال الشيخ المجاهد العوامي ظلماً وزوراً، وكانت هناك محاولة للقبض على السيد صفي الدين السنوسي باءت بالفشل بسبب تحذير عثمان العنيزي له من غدر الإيطاليين.

    سنأتي فيما بعد لتحليل الدوافع السياسية الني أدت إلى هجرة الأمير محمد إدريس السنوسي إلى مصر والترتيبات التي اتخذت في سبيل استمرار حركة المقاومة. ولكن سنتحدث قبل ذلك في المقالة القادمة عن دور الحركة السنوسية في تحرير ليبيا من الحقبة المظلمة و الجاهلية الدينية التي كانت تسيطر على البلاد في القرن التاسع عشر، و العمل على تقوية الدين الإسلامي في ليبيا ومن ثم نشره في دول أفريقيا مثل تشاد والنيجر و السودان، و جهادهم ضد الفرنسيين في تلك الدول والوقوف ضد عملية التنصير التي كانت قائمة على قدم وساق في ذلك الوقت.  

وهذه نبذة مختصرة عن الحركة السنوسية ليتعرف عليها من لم يعرفها ولكي ( وهذا هو المأمول ) يصحح من فهمها خطأً معلوماته التي ولا شك تم تلقينها للناس على مدي 42 عاما عبر أجهزة إعلام كانت مهمتها تشويه دور الحركة السنوسية في ليبيا وشمال أفريقيا وتم تصويرها لهم على أنها حركة سيطرة سياسية من قبل الأسرة السنوسية، متجاهلين الدور العظيم الذي قامت به لتنظيف المجتمع الليبي من المعتقدات الخاطئة وانتشال الناس من بئر الجهل والتخلف الديني  ونشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية الأفريقية، ثم تحريك المواطنين وتشجيعهم على الجهاد ضد الغزاة الإيطاليين وقيادته حتى النصر و تحقيق الاستقلال.

   السنوسية حركة دعوة إسلامية إصلاحية تجديدية اعتمدت في معظم أمورها على الكتاب والسنة مع تأثر بالصوفية، وقد ظهرت في ليبيا في القرن الثالث عشر الهجري ومنها انتشرت إلى شمال أفريقيا والسودان والصومال وبعض البلاد العربية. وقد تأثرت هذه الحركة الدعوية بالإمام أحمد ين حنبل وشيخ الإسلام بن تيمية وأبي حامد الغزالي والشيخ محمد عبد الوهاب وحركته السلفية بوجه خاص.. كما تأثرت بالتصوف الخالي من الشركيات والخرافات كالتوسل بالأموات والصالحين واعتمدت منهجاً متكاملاً للارتقاء بالمسلم. مؤسس هذه الحركة هو محمد بن علي السنوسي (1202-1276 هجري) الذي تأثر بالمذهب المالكي ( إلا أنه كان يخالفه إن جاء الحق مع غيره ) و اعتمدت هذه الحركة في الدعوة إلى الله على أسس الحكمة والموعظة الحسنة والابتعاد عن العنف، واهتمت بالعمل اليدوي الجاد والاعتماد على النفس والجهاد الدائم في سبيل الله ضد المستعمرين والصليبيين.





   -  محمد بن على السنوسي الحسني الإدريسي:

    ينحدر من سلالة ملوك الأدارسة الذين أسسوا الدولة الإدريسية ويعود نسبه إلى إدريس الأكبر ابن عبد الله الكامل ابن السيد الحسن المثنى ابن السيد الحسن السبط ابن الإمام على بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهم جميعا. ولد في ربيع الأول سنة 1202هجري الموافق كانون الأول سنة 1787م في بلدة مستغانم بالجزائر في بيت دين و علم وفضل.

   سعى منذ صغره إلى طلب العلم ودرس علوم القرآن والفقه والحديث ونبغ فيها. درس على أيدي علماء أجلاء وتعلم على يديه فيما بعد علماء كبار ذاع صيتهم. خرج يعظ الناس وزار عدة بلدان منها المغرب و تونس وطرابلس وبرقة ومصر ومنها توجه إلى مكة المكرمة وأنشأ بها أولى زواياه سنة 1257 هجري الموافق 1841م على جبل بني قبيس ثم غادرها إلى الجبل الأخضر في ليبيا وشيد الزاوية البيضاء هناك. كثر تلاميذه وانتشرت طريقته ثم انتقل إلى واحة الجغبوب وأقام بها حتى وفاته سنة 1276هجري الموافق 1859م.

   ألف نحو أربعين كتاباً ورسالة وأمل من دعوته زيادة العبادة واقتفاء أثر السلف الصالح و دعوة إخوانه ومريديه إلى الدين الصحيح وإرشاد عباد الله لما فيه سعادتهم . ولم يتطلع يوما لمهاجمة الخلافة العثمانية أو التعرض لها لأنه كان يعتقد أن الخلافة العثمانية لا تشكل أكثر من قطر من أقطار هذا العالم الواسع الذي يريد إصلاحه ولأن السيطرة العثمانية في برقة لم تتعدى السواحل، أما الدواخل فكانت في أيدي شيوخ القبائل و رؤسائها.

   كانت الزوايا السنوسية دور عبادة وتعلم و مراكز حياة اجتماعية ومقر سلام ونظام. لم تتدخل السنوسية في تفاصيل الحياة البشرية كافة ولكن كانت تنهي الناس عن ما نهى الله عنه ولم تدعو إلى حمل السلاح واستعمال القوة، و إنما دعت إلى التودد إلى الناس ودعوتهم إلى الخير.. ولم تكن الزوايا صوامع أو أديرة للنساك والرهبان والمتعبدين والمنقطعين للعبادة أو حلقات الدراويش المنصرفين عن أمور الدنيا ، وإنما كانت مراكز كبيرة  للنشاط الاجتماعي والديني. فقد كان أصحاب الزوايا يهتمون بشؤون الدين والدنيا معا وحرمت على أتباعها التسول وحضتهم على الكد في العمل والسعي من أجل لقمة العيش على أساس الأخوة والتعاون. ونشطت الزراعة والتجارة حول الزوايا. وذاع صيت الدعوة وعم مناطق كثيرة في أفريقا ووصلت حتى الملايو وإندونيسيا شرقا. وتوافد الناس عليها لاعتناق الإسلام.

   بلغ عدد الزوايا التي أحصاها المؤرخون 180 زاوية، 25 منها في شبه الجزيرة العربية و 163 في أفريقيا منها 97 في ليبيا و 47 في مصر و 17 في السودان الأفريقي و2 في تونس.

كانت كل زاوية عبارة عن وحدة إدارية متكاملة يوجد بها المسجد ومنازل لقائدها ( المقدم ) وللوكيل والشيخ وبيوت للضيوف وعابري السبيل و الفقراء الذين لا مأوى لهم ، ومساكن للخدم ومخزن للمؤن وإسطبل ومتجر وفرن وسوق. وتحيط بهذه المباني مساكن القبائل الني تقوم الزاوية في منطقتهم. وتخصص أراض زراعية وقفاً  للزاوية بها آبار جوفية وصهاريج لحفظ المياه.. كانت أراضي الزاوية تزرع جماعيا كل يوم خميس بدون أجر وينفق المحصول   الزراعي على الفقراء والضيوف وعلى التعليم.. والفائض يذهب إلى مركز الطريقة. وكما كان بوم الخميس يوم العمل الجماعي التطوعي، فقد كان يوم الجمعة خاصاً بالتدريب على الفروسية واستخدام السلاح و فنون الحرب والقتال.

   كان السنوسي الكبير يقيم وزنا للعمل والكد والكفاح ومحاربة الكفر وأهل الكفر المستعمرين و لذا كان حريصا على أن يتعلم أتباعه فنون القتال بجانب الزراعة والأعمال الحرفية. طلب منه بعض أتباعه في يوم من الأيام أن يعلمهم الكيمياء ليكون في استطاعتهم تحويل المعادن العادية إلى معادن نفيسة فقال لهم ( الكيمياء تحت سكة المحراث.. إنها كد اليمين وعرق الجبين).. وكان يعلم تلاميذه بأن ( العاكفين على الأوراد والمسابح لن يتقدموا على أهل الزراعة و الحرف عند الله أبدا).

   كان المقدم هو ممثل شيخ الطريقة فيها وقائد قبائلها عند الجهاد.. كما كان الوكيل المشرف على الزراعة وشؤون الإدارة والمالية والاقتصاد,, ويتولى شيخها تعليم الصغار وإبرام عقود الزواج. ويكون هؤلاء في مجملهم مع رؤساء القبائل المجاورة ووجهائها مجلس إدارة الزاوية.

   من هذه الزوايا انطلق الناس ينشرون الإسلام، كما تفهمه الطريقة السنوسية. ينشرونه بين قبائل الأعراب في الصحراء وقبائلها الذين كانوا مسلمين بالاسم، ولكنهم لم يكونوا يعرفون الكثير عن العبادات ولم يكونوا قادرين على قراءة القرآن بطريقة صحيحة، وكانوا يتعلقون ببعض شكليات الإسلام،  كما كانوا يؤمنون بالشعوذة وزيارة الأولياء التي كانت أقرب للشرك منها للإسلام. كما قامت بنشر الإسلام بين القبائل الوثنية في قلب أفريقيا و تصدت للمد الاستعماري هناك و الذي كان بقوم بعمليات التنصير فوقفت ضد الفرنسيين في تشاد وغرب السودان وأوقفت زحفهم ألتنصيري وحاربوهم قرابة الخمسة عشر عاما( 1319-1332هجري /1901-1914م) كما أنهم قاوموا الغزو الإيطالي لليبيا من سنة 1911 ولمدة عشرين عاما.

   لم تر الدولة العثمانية في الدعوة السنوسية وزواياها عائقا يحول دون بسط نفوذها وتعميق سلطانها. وطلبت من واليها في طرابلس تأييد السيد محمد بن على السنوسي ودعوته وتقديم الدعم المادي و المعنوي له. وحاولت فيما بعد استخدام نفوذه لإصلاح ذات البين بين العرب والأتراك. و كانوا يأملون ضمان مؤازرة الدعوة لهم من خلال علاقاتهم الطيبة عند الحاجة.



   ــ محمد المهدي  السنوسي ( 1844- 1902م ):  ولد بالقرب من مدينة البيضاء بالجبل الأخضر في شهر ذي القعدة سنة 1260 هجري الموافق نوفمبر سنة 1844م. و حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة. أخذه زوج خالته الشيخ محمد بن إبراهيم الغماري إلى الحجاز حيث كان والده لتلقي تعليمه على أيدي نخبة من العلماء، ثم واصل تعليمه تحت إشراف والده بمعهد الجغبوب و خلف والده في قيادة الدعوة السنوسية وعمره اثنا عشر عاما.

   نظم المهدي الحركة و أنشأ مجلسا أعلى من كبار الإخوان من رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس والحجاز والسودان وشمال أفريقيا ويمثل رأس الهرم الذي قاعدته الزوايا ويجتمع سنويا في الجغبوب للنظر في أمور الحركة الهامة. كما أسس المجلس الخاص الذي يتكون من كبار الإخوان المقيمين في الجغبوب و شكل بالفعل قيادة الحركة ( وهو كما وصفه المرحوم الطيب الأشهب يمثل وجلس الوزراء في الحكومات). كما ازدهرت الحركة التجارية والزراعة في الجغبوب بسبب موقعها على طرق تجارة القوافل التي تربط الساحل بالواحات في عمق الصحراء وبمصر في الشرق. انتشر الإسلام في الفترة التي قضاها قائدا للدعوة وهي 40 سنة انتشارا كبيرا في أفريقيا ووصل إلى بحيرة تشاد ومنطقة غرب السودان والصومال والنيجر و الكونغو والكمرون وانتعشت الحياة في جميع المناطق التي بها الزوايا واستتب الأمن، و عندما شعرت دول الغرب بخطر الحركة السنوسية على برنامجها التنصيري الاستعماري في أفريقيا شرعت في حبك الدسائس و المؤامرات وتأليب الدولة العثمانية عليها. لقد اشتاطت غضبا وكانت مندهشة وهي ترى القبائل الوثنية من التبو و البرقو تدخل طوعا في الإسلام. بعد انتقال محمد المهدي من الجغبوب إلى الكفرة وجعلها مركز قيادة الحركة انتعشت المنطقة و زاد نفوذ السنوسيون في أفريقيا. ثم دخل في حرب مع القوات الفرنسية استشهد فيها المئات إن لم يكونوا الآلاف من المجاهدين دفاعا عن الإسلام. كانت المنظمات التبشيرية الأوربية تمثل طلائع المد الاستعماري ووظفت الدين في خدمة النهب الاستعماري و استغاثت بحكوماتها فضغطت على السلطان العثماني كي يحد من نشاط السنوسيين. قاوم السلطان هذا الضغط في بادئ الأمر ولكنه اضطر في آخر الأمر لأن يحاول دعوة السيد محمد المهدي كي يعيش في الآستانة عيشة الأمراء.. الأمر الذي نجح للسلطان مع جمال الدين الأفغاني.. ولكن السيد المهدي رفض وكان هذا أحد الأسباب التي جعله ينقل مقر قيادته إلى جوف الصحراء .. إلى الجنوب مقترباً بذلك من الأماكن التي كان يستهدفها بنشر الوعي الإسلامي.

كان هذا السرد مهما للتعريف بالحركة السنوسية ودورها الرائد في ليبيا منذ أن جاء مؤسس الحركة وللتعريف في المقالات القادمة بوريثه على قيادة الدعوة السنوسية السيد محمد إدريس المهدي السنوسي و الدور المهم الذي قامت به الحركة تحت قيادته على الطريق لتحرير ليبيا.

محمد إدريس المهدي السنوسي:

    ولد في واحة الجغبوب يوم الجمعة في 20 رجب سنة 1307 هجرية الموافق 12 مارس سنة 1883م. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة وتعلم على يدي والده في البداية وثم عهد به إلى مجموعة من أفضل العلماء اشتهر من بينهم الشيخ العلامة العربي الفاسي و أحمد أبو سيف والشيخ العربي الغماري ( جد كاتب هذه المقالات لأبيه) و حسين السنوسي وأحمد الريفي وأحمد الشريف السنوسي، فأتقن القراءات وعلوم الحديث ( البخاري ومسلم ومسند أبي داوود والترمذي والنسائي ابن ماجة وموطأ مالك ومسند إلي حنيفة والإمام أحمد وكتب الإمام الشافعي وغيره من كتب الفقه والتفسير واللغة والتاريخ.. وتحصل على عدة إجازات فيها. أصبح فيما بعد من أعضاء مجلس الشورى في الحركة السنوسية وعكف على الدراسة بهمة ونشاط وكون لنفسه مكتبة خاصة أصبحت في طليعة المكتبات العربية. كان مجلسه عامرا بالعلماء والأدباء الذين كان يحبهم ويجلهم . كلن أحب العلوم إليه الحديث الشريف والتاريخ والأدب والسياسة. كان معروفا عنه قوة الذاكرة و سرعة الخاطر كما كان متين الحجة جميل المعشر رحيما بأتباعه وذو اهتمام خاص بالفقراء والمساكين. كان أيضا كثير المطالعة و خطيبا بارعاً. حرص بشدة على وحدة الصف السنوسي أمام أعداء الإسلام.. وعندما كان السيد أحمد الشريف السنوسي يقود كتائب الجهاد ضد فرنسا في السودان الغربي، لم يشأ أن يطلب منه التخلي عن الزعامة له.. وهو الوريث الشرعي لها كما كان الإخوان السنوسيون يرون..وفاءً منه للسيد أحمد الشريف الذي كفله بعد وفاة والده السيد محمد المهدي.. و عمل على لم شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم عندما بدأ الإيطاليون هجومهم الغادر على الأراضي الليبية. وكان ذلك التصرف منه دلالة على حرصه الشديد على المصلحة الوطنية و سير حركة الجهاد، فاجتمعت كلمة الناس على قيادة أحمد الشريف.

رحلته إلى الحج:

    لن أنقل كل ما كتبه السيد محمد إدريس السنوسي شخصيا عن تلك الرحلة  توفيرا للوقت، تلك الرحلة التي لم تكن فقط مهمة لأجل الحج ولكن لأنها كانت تتعلق بالاتصالات التي جرت أثناء الرحلة مع قادة عرب والإنجليز الذين احتك بهم لأول مرة. سأنقل مما كتبه فقط فقرات تساعد على استيعاب الموضوع. قال بأنه بعد بلوغه سن الرشد في عام 1330 هجرية/ 1912م رفض طلب الإخوان السنوسيين له لقيادة الحركة، كما ذكرنا سابقا، وبـأنه فضل أن يستمر أحمد الشريف بقيادة كتائب الجهاد نظرا لخبرته الطويلة في إدارة شؤون الطريقة وفي القتال والقيادة ولأن السيد أحمد الشريف كان يستعد للسفر إلى الجغبوب بناءً على طلب أنور باشا الذي كان يقود حركة المقاومة ضد الطليان في برقة مع المجاهدين. وبقي هو في الكفرة عاما كاملا يتدرب على كيفية تسيير الأمور المتعلقة بمسؤولياته المقبلة. وفي تلك الفترة تخلت تركيا عن ليبيا. وبينما كان أحمد الشريف يحارب الإيطاليين قرر الذهاب إلى مكة للحج ثم العودة لمساعدته. غادر الكفرة في أغسطس سنة 1913م برفقة بعض الإخوان ووصل الجغبوب التي مكث بها عدة أشهر وغادرها في أبريل سنة 1914 متجها إلى مصر واستقبله ضابط مصري اسمه صالح حرب مكلفا من الخديوي عباس الثاني ونزل ضيفا على الخديوي الذي رحب به أعظم ترحيب.. وزار خلال رحلته العديد من الزوايا السنوسية في مصر. وقال بأن المصريين، بالرغم من حيادهم المعلن رسميا في الحرب مع إيطاليا ، إلا أنهم كانوا يقفون مع إخوانهم المسلمين في ليبيا ويبذلون كل ما في وسعهم لمساعدة السنوسيين وإمدادهم بالسلاح والمعدات الطبية.. كان اللورد كيتشينز يشغل حينها منصب المندوب البريطاني في مصر. ومن مصر سافر إلى حيفا حيث استقبله الوالي التركي استقبالا رسميا، ثم استقل القطار إلى الحجاز حيث مرض بالحمى وهو في المدينة المنورة. وسافر مع مرافقيه ممتطيا فرسه التي أخذها معه من المدينة إلى مكة وقطع المسافة في أحد عشر يوماً. ذهب إلى الطائف  ومكث بها عدة أشهر في انتظار موسم الحج. اندلعت الحرب العالمية الأولى في تلك الأثناء. وصل إلى مكة المكرمة في شهر أكتوبر سنة 1914م. وبعد الحج اضطر للبقاء في المدينة المنورة مدة شهرين بسبب انقطاع المواصلات. وأثناء انتظاره في المدينة قامت الحرب بين بريطانيا وتركيا وحاول كل طرف منهما كسب العرب في صفه والتزم الشريف حسين الحياد متجنبا إعطاء أي رد مباشر على الدعوة التركية للجهاد. في شهر ديسمبر استأنفت القطارات رحلاتها فسافر إلى حيفا واضطر للانتظار مرة أخري بسبب القتال بين بريطانيا وتركيا في منطقة السويس، وكان البريطانيون قد أعلنوا الحماية على مصر بعد خلع الخديوي عباس الثاني واستبداله بعمه حسين كامل الذي منح لقب السلطان. ولما كان السنوسيون في برقة حلفاء للأتراك ويحاربون تحت قيادة أحمد الشريف ضد الإنجليز، فلم يضمن قبطان السفينة السماح لهم بالنزول إلى مصر. غير أن العلاقات كانت قد بدأت تتحسن بين السنوسيين والإيطاليين، الذين أخذوا يسعون للتفاهم مع السيد أحمد الشريف فخاطروا بالسفر إلى مصر في شهر فبراير سنة 1915م. استضافهم السلطان حسين، وكان الجنرال ماكماهون قد خلف اللورد كيتشينز في منصب المندوب السامي البريطاني في مصر. وانتهز السيد محمد إدريس الفرصة والتقى بكل من الجنرال ماكسويل، قائد القوات البريطانية في مصر و الكولونيل كلينتون مندوب حكومة السودان المقيم بالقاهرة اللذان أعربا عن رغبتهما في أن يقطع الليبيون في برقة علاقتهم بالأتراك ويقوموا بتأييد البريطانيين عليهم أو البقاء على الحياد. ويقول السيد إدريس بأن ذلك كان أول لقاء بينه و بين  البريطانيين خرج منه بانطباع جيد عن سلوكهم الودي وقوتهم العسكرية. ويقول أيضاً بأنه لم يلتزم بأي تعهد لهم نيابة عن السنوسيين قبل استشارة السيد أحمد الشريف أولا. غير أنه وافق على مبدأ الاتصال بهم من خلال علاقاته بعائلة الإدريسي في مصر فوافقوا على ذلك كما أنهم وافقوا على تسهيل عودته إلى برقة.

   ساهمت هذه الرحلة في بلورة رأي السيد محمد إدريس السياسي وتفكيره، حيث كان لاحتكاكه بالحكومة المصرية وبزعيم الثورة العربية الكبرى آنذاك الشريف حسين وقادة الإنجليز في مصر أثراً كبيراً. لقد كان للنقاشات التي دارت بينه وبين الأطراف المذكورة بلا أدنى شك تأثيرا على قناعات مهمة فيما يتعلق بمجريات السياسة الدولية و بطبيعة الصراع بين بريطانيا وتركيا. بدون أدنى شك قد يكون رسم لنفسه تصورا عن المسار الذي يجب أن يأخذه لخدمة شعبه ومصالح بلاده في خضم تلك الأحداث الدولية التي كانت تعصف ببلاده وليس للشعب الليبي فيها حرية الاختيار، ولذا رأى أنه ليس من مصلحة الحركة السنوسية الدخول مع الأتراك في حربهم ضد الإنجليز.. خاصة وأن الأتراك قد تنازلوا عن البلاد لإيطاليا، متناسية الشعب الليبي الذي كان في حمايتها.. وبعد رجوعه إلى برقة نصح السيد أحمد الشريف بعدم الدخول في الحرب مع الأتراك وأعلن رأيه بصراحة.

   بالرغم من كل ذلك فقد قرر السيد أحمد الشريف مساندة الأتراك والألمان ضد الإنجليز على الحدود المصرية الغربية وبدأ في تنظيم شؤون الإدارة في برقة حتى يتفرغ هو للجهاد، فقسم القطر البرقاوي إلى مناطق وجعل إدريس على منطقة برقة ومركزه اجدابيا ولكن تحت إشرافه و عين في كفنا السيد محمد هلال و في الجبل الأخضر السيد محمد الرضا وأرسل السيد صفي الدين إلى منطقة طرابلس.

   تحرك محمد إدريس من السلوم شرقا وحتى اجدابيا غربا في قوة قوامها سبعون مجاهدا( كان من بينهم جمعة بوشناك و والشارف الغرياني وإبراهيم الشلحي ومحمد أحمد أبوبكر وغيرهم ). كان يتنقل بين القبائل وكتائب الجهاد وشرع في إدارة دفة الحكم في برقة بكل حزم ومهارة.. كانت برقة تعاني من اختلال الأمن في تلك الفترة المضطربة وعانى الأهالي من أعمال الفساد والسطو والقتل. استصدر من علماء البلاد فتوى بإعدام بعض السودانيين الذين كانوا يعيثون في الأرض فساداً فقام بشنق سبعة رجال منهم. تم توطيد الأمن وتم تنظيم شؤون الإدارة وضرب بيد من حديد على أيدي المفسدين..غير أن المهمة كانت شاقة وعسيرة وخاصة بعد الفشل الذي أصاب المجاهدين بزعامة أحمد الشريف على أيدي الإنجليز في مصر بسبب تخلي الأتراك عنه وعدم إمداده بما وعدوه من عتاد وجند. انتشرت المجاعة وتفشت الأمراض و بالذات الطاعون في برقة وغزا الجراد المنطقة فأتى على الزرع سنة 1917م واحتبست الأمطار طيلة تلك السنوات وعم الجفاف وابتليت البلاد بالمجاعة.

   اجتمع بعض أعيان أهل برقة وتدارسوا الموقف  وتشاورا في تلك الحالة المخيفة التي حلت بالوطن وأهله، وأرسلوا وفودهم و كتبهم إلى السيد إدريس في اجدابيا بصفته صاحب الحق الشرعي في قيادة السنوسيين لإنقاذ الموقف وتدارك ما وقع فيه ابن عمه الوصي على الإمارة بمحاربته الإنجليز ومساندته للأتراك الذين خذلوه. قال عبد الرحمن عزام ملخصا تلك الحالة :

( كنا نترقب السواحل باستمرار مؤملين أن ترى الغواصات الألمانية إشاراتنا بالرايات في النهار أو نيراننا الني كنا نشعلها في الليل، وتركزت آمالنا في أن تمدنا الغواصات بشيء من السلاح والمال والمؤونة، وقد بقينا نحو أربعة أشهر وصلنا فيها إلى حالة مروعة من الفقر).

  كان السيد محمد إدريس مؤدبا مع ابن عمه السيد أحمد الشريف، فكتب إليه شارحا له ما يجري في برقة  و لم يطلب منه التنازل عن القيادة. فرد عليه السيد أحمد أواخر سنة 1916م بأن يقوم بما يراه مناسباً وجاء في الرسالة: ( ....اعمل ما تراه مناسباً والحاضر يرى ما لا يراه الغائب وأنا موافق على مطالب أهل الوطن حيث أن لهم الحق في ذلك... )

   كان لظهور السيد محمد إدريس السنوسي على المسرح السياسي الليبي في تلك الفترة الحرجة مهما للغاية، لما تمتع به من صفات أهلته لزعامة البلاد، وآلت الأمور إلى أن بايعه أهل برقة بالإمارة لم أهل طرابلس فيما بعد، بعد فشل الجمهورية الطرابلسية كما ذكرنا سابقاً. كان من رأيه الدخول في مفاوضات مع الانجليز والوصول على الأقل على اتفاق مؤقت من أجل فتح الطرق مع مصر، حتى يتمكن من القضاء على خطر المجاعة . و أيده زعماء برقة في التفاوض مع إيطاليا وبريطانيا ( وكانتا حليفتين آنذاك) ما دامت تلك المفاوضات ستساعدهم في القضاء على شبح المجاعة الذي هدد البلاد. وكان للقاءاته في مصر مع البريطانيين الأثر في موافقتهم على المفاوضات ، غير أنهم اشترطوا وجود الإيطاليين طرفاً فيها، ولم يجد محمد إدريس مفراً من قبول ذلك الشرط بسبب موقفه الصعب بعد هزيمة جيش السيد أحمد الشريف في مصر، التي جردت السنوسيين من عنصر القوة العسكرية.. واضطر للتفاوض معهم من موقف ضعف عسكري، بينما كان رصيده الوحيد ولاء أهل برقة وقبائلها له، وحرص الانجليز على كسبه لصفهم وإضعاف السنوسيين الموالين للأتراك.. كما ساعدت ثورة الأتراك ضد السنوسيين في دعم موقفه.

  سنتكلم في المقالة القادمة إن شاء الله عن ثورة الأتراك ضد السنوسيين وعن سير المفاوضات بين السيد محمد إدريس والإنجليز والإيطاليين.ونحلل الموقف لنجد التبرير الديني والعلمي لضرورة إجراء تلك المفاوضات بناءً على ما ذكرناه اليوم.

   يتساءل الكثيرون من المهتمين بالسياسة والتاريخ عن سر تقرب السيد إدريس السنوسي من الإنجليز.. وهنا وقبل أن أتحدث في أي شيء آخر سأتطرق إلى هذه الموضوع الهام والذي بنيت عليه نظريات خاطئة وأحكام مسبقة لمجرد أن البعض زوروا الحقائق وتلاعبوا بالتاريخ تحقيقا لأغراضهم في دفع الناس إلى القبول بهم على أنهم المخلصون الوحيدون لليبيا من أزماتها والفوز برضاهم لتحقيق أغراض نعرف سرها الآن.. ذكرنا آنفا بأن محمد إدريس السنوسي استلم الزعامة في فترة حرجة خسر فيها الجيش السنوسي بقيادة السيد أحمد الشريف أمام الإنجليز وهو يقاتل بجانب الأتراك الذين خذلوه، و في وقت الجفاف الشديد الذي اشتدت فيه المجاعة التي كانت تفتك بالبشر والحيوانات على حد سواء، وأن الناس في برقة كانوا في حالة فقر شديد مع انتشار الأمراض والأوبئة و خاصة الطاعون. بدأت ثورة الأتراك ضد السنوسية سنة 1916 تمكن فيها الأتراك من الانتصار عليها في فزان في شهر سبتمبر 1917م و طرد منها السيد محمد عابد السنوسي الذي لجأ إلى الكفرة تاركا واحة واو.. و أصبحت فزان تحت سيطرة الأتراك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

   انتهز الأتراك فرصة انشغال إدريس السنوسي بالمفاوضات في عكرمة .. سنأتي على ذكرها بالتفصيل لاحقاً.. وبدؤوا في تأليب المجاهدين ضد السنوسيين في اجدابيا. حينها قطع إدريس المفاوضات وجاء مسرعاً بقوات كبيرة تحت قيادة كل من عمر المختار وقجة عبد الله وعسكر بقواته خارج المدينة  ضاربا حصارا حول معسكر الأتراك.. ثم تم تخييرهم بين أمرين.. إما التسليم أو مغادرة اجدابيا إلى طرابلس فقبلوا بالأمر الثاني. غادر الكثير منهم برقة إلى الأراضي الطرابلسية واعتقل البعض منهم وأرسل البعض الآخر إلى الكفرة .. عاد إدريس بعد ذلك إلى عكرمة لاستكمال المفاوضات. غير أن الأتراك لم يتوقفوا عن محاولة الإطاحة بالسنوسية والتضييق على محمد إدريس ، ولذ أرسل نوري باشا بعثته الأولى إلى الكفرة لضرب نفوذه هناك، غير أن البعثة العسكرية فشلت ووقع أعضاؤها أسري بيد السيد صفي الدين السنوسي وأودعهم السجن.. أما في فزان فقد نجح أنور باشا في تأليب الناس ضد السنوسيين كما ذكرنا.

   قام الأتراك بمهاجمة الجفرة التي كان بها عبد الجليل سيف النصر.. كان قائدة الحملة الضابط  التركي برتو توفيق وعبد النبي بالخير وتكونت الحملة من في معظمها من مسلحي مصراته و زليطن برئاسةشرف الدين العمامي الزليطني و الحاج محمد الروياتي المصراتي.. كانت تركيا تأمل من نتائج تلك الحملة كسر شوكة السنوسيين و تأمين المواصلات بين طرابلس و فزان . وصلت الحملة إلى الجفرة وتمكنت من طرد الأهالي من أولاد سليمان وقذاذفة وبعض المغاربة. وبعد أن جمع السنوسيون صفوفهم مؤدين من أنصارهم في النوفلية شنوا هجوما مضاداً على الأتراك وأعوانهم في منتصف شهر نوفمبر سنة 1917م وانتصروا عليهم نصراً كبيراً وتم طرد القوات التركية الطرابلسية وأسر القائمقام التركي برتو توفيق وأعدم شنقاً.

   ومن هنا نرى أن مواقف الأتراك من السنوسيين شجعت محمد إدريس على المفاوضات مع الإنجليز، ليس فقط لتدارك المجاعة الشديدة وحماية الناس من الفقر و القضاء على الأمراض و الأوبئة التي كانت متفشية في البلاد فحسب، ولكن أيضاً للقضاء على الأتراك الذين سعوا إلى القضاء على نفوذ السنوسيين وإقصائهم من ليبيا وتمكين القيادات الطرابلسية الموالية لهم.

   لقد فقد محمد إدريس الثقة في الأتراك الذين سلموا البلاد لإيطاليا بعد معاهدة أوشي في شهر أكتوبر سنة 1912م و أرسل إلى ابن عمه أحمد الشريف رسالة في 26 ربيع أول سنة 1335 هجرية الموافق 2 يناير سنة 1917م تساءل فيها عن ثمرة وعود الأتراك المتكررة .. والذين قاموا بتعيين الباروني ممثلا لجلالة السلطان العثماني في طرابلس و قاموا بتسليحه وتزويده بما يلزم للجهاد ضد الإيطاليين، بينما أحمد الشريف لم يتلق منهم إلا الوعود الكاذبة والغدر مع أن أنور أخبره بأن السلطان سيعينه ممثلا عنه في أفريقيا.

  من أسباب التقارب بين إدريس و الإنجليز قناعته بأن نهوضه ببرقه لا يتأتى إلا بالدعم الخارجي.. دعم مادي و معنوي.. كما أنه لا شك رأي ببعد نظره السياسي أن الحلفاء سينتصرون في الحرب العالمية الأولى في نهاية الأمر. كانت بريطانيا العظمى صاحبة التفوق العسكري في المنطقة في ذلك الوقت وتحتل مصر التي تعتمد عليها برقة في التجارة .. كان يسعى إلى التقليل من الخسائر والمحافظة على الكيان السنوسي الذي عملت القيادة التركية على تحطيمه.. ولذا نجده قد اتخذ قراراً بالانسحاب من الحرب ضد إيطاليا وبريطانيا .. ووافقه زعماء القبائل التابعين للحركة السنوسية على قراره ذلك.

   قال الأمام الشافعي رحمه الله :

( إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين أو طائفة منهم لبعد دارهم أو كثرة عددهم أو خلة بالمسلمين أو بمن يليهم منهم ، جاز لهم الكف عنهم ومهادنتهم من غير شيء يأخذونه من المشركين ).. ثم يقول ( فأحب الإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة- وأرجو أن لا ينزلها الله عز وجل بهم ، إن شاء الله تعالى- مهادنة يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا لمدة ولا يجاور بالمدة مدة أهل الحديبية، كانت النازلة ما كانت، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة. فإن لم يقو الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها أو دونها ).

  كما قال في كتابه( المهذب ): ( لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام ). ونعرف أن الرسول صل الله عليه وسلم هادن قريش عشر سنوات.

   يفهم مما سبق أن المحور الأساسي الذي يجب أن تدور حوله عقد المعاهدات مع العدو هي مصلحة الإسلام و المسلمين .. وأن هذه المصلحة يرجع تقديرها إلى خليفة المسلمين أو من يتم تفويضه من قبل الناس.

   في هذا العصر تتكالب الدول الاستعمارية على بلاد العرب والمسلمين وتبحث عن الذرائع أمام العالم أو تهيئ الأسباب للانقضاض عليها ونهب ثرواتها وإذلال المسلمين. ولذا وبسبب ضعفنا يجب علينا أن نتجنب كل ما يجعل تلك الدول الطامعة تكشر عن أنيابها وهي في موقف القوة الني تؤهلهم للفتك بنا.

   ما قام به محمد إدريس السنوسي هو ما ينصح به الإسلام، كان عليه أن يعقد المعاهدات والتفاوض من أجل مصلحة البلاد ودرء الخطر و محاربة العدو.. في مثل هذه الأحوال تضطر الشعوب إلى عقد المعاهدات.. وعندما نعقدها يجب أن تكون مشروعة و بحيث يكون نفعها أكبر من ضررها بالنسبة للإسلام والمسلمين والبلاد.. من أجل قطع الطريق على مخاطر أكبر و أجل. في نفس الوقت يجب علينا أن نسعى إلى القضاء على الفقر والجهل والتخلف و الفرقة التي مزقت البلاد، والعمل على اللحاق بركب حضارة تلك الدول والاستفادة من فترات الهدنة إلى أقصر الحدود.

  يجب علينا أن نكون منصفين عند الحكم على ما اضطر إليه محمد إدريس السنوسي من مهادنة و مفاوضات مع الانجليز .. و وحلفائهم الطليان، العدو المغتصب للوطن، أو ما قام به زعماء طرابلس بعد إعلان الجمهورية الطرابلسية مع إيطاليا..

   دراسة الموضوع من هذا المنطلق ستساعد الأجيال القادمة .. وهذا الجيل أيضا.. على فهم كثير من الأمور المتعلقة بالعلاقات الدولية في الإسلام.. تتعلم كيف توظف قدراتها على فهم المعادلة الدولية التي يجب مراعاتها إثناء السعي لتحكيم الإسلام في دنيا الناس وواقع الحياة.

 المفاوضات بين إدريس السنوسي مع الإنجليز والطليان  ما نتج عنها من معاهدات واتفاقات.:

اتفاقية عكرمة بطبرق:

    رأي البريطانيون في مصر بأن محمد إدريس السنوسي كان أكثر أهمية  لهم من أحمد الشريف و بعثوا بوفد إدريسي إلى برقة قبيل بدء الحرب الليبية الإنجليزية على الحدود مع مصر الذي أعطى وصفاً لإدريس كما يلي:

(هو أكثر اعتدالا وأشد حزما وأنه من أشد المعارضين لغزو حدود مصر الغربية والاشتباك في حرب مع الإنجليز لما تنطوي عليه من أخطار، وأنه غادر المسيعيد إلى جهة الجبل الأخضر احتجاجا على سياسة أحمد الشريف المائلة إلى الترك والألمان والتساهل معهم....)

   أذن الحكام في مصر للوفد بأن يتصل بإدريس للتوصل إلى اتفاق معه. كما ساعدت العلاقات التي كانت قائمة آنذاك بين البيت الإدريسي في مصر( من أبناء وأحفاد أحمد بن إدريس الذي كان معلما للسيد السنوسي الكبير في مكة المكرمة) وبين الأسرة السنوسية، في التهيئة لتلك المفاوضات. أشترط الإنجليز على محمد إدريس أن يقبل التفاوض مع حليفتهم إيطاليا لبدء المفاوضات ووصل وفدهم ( الأنجليزي/ الإيطالي ) إلى الزويتينة في أواخر سنة 1916م. ورافق الإنجليز من المصريين السادةأحمد محمد حسن أفندي و محمد الشريف الإدريسي و   محمد المرغني إضافة إلى الكولونيل تالبوتالخبير في شؤون شمال أفريقيا والضابط هسلم. كان الوفد الإيطالي مكون من الكولونيل بيلا و الكومانداتور بياجينتيني يرافقهم مترجم. ووصل السيد إدريس في وفد يرافقه السيد علي باشا العابدية.

   استمرت المفاوضات طيلة شهري أغسطس وسبتمبر وكان هناك تفاهما واضحا بين الليبيين والإنجليز، غير أنه كان معدوما مع الإيطاليين. قدم الإيطاليون شروطا كان أولها أن يقوم الليبيون بتسليم الأسرى الإيطاليين لدى الجيش السنوسي.. وماطل السيد إدريس في هذه النقطة وصرح لأنه لا يستطيع البث في أمرها إلا بعد الرجوع إلى السيد أحمد الشريف الذي أسرهم.؟ وكانت الشروط الأخرى كالآتي:

1 – أن يعترف إدريس بالسيادة الإيطالية على كل من برقة من منطقة بنغازي إلى الكفرة. 

2 – أن يسلم المجاهدون أسلحتهم فلا يبقي لديهم سوى ما يكفي للمحافظة على أنفسهم.

3 – إحلال السلام في وقف العمليات الحربية بين الجانبين.

4 – اعتراف إيطاليا بالسنوسية زعامة وطريقة.

5 – منح الكفرة – مقر السنوسيين – استقلالا إدارياً.

6 – تتعهد إيطاليا بقيام المحاكم الإسلامية الشرعية.

7 – تتعهد إيطاليا بالعمل على تحسين الأحوال الصحية في البلاد وإنشاء المستشفيات والمدارس.

   كان شرط الإيطاليين الخاص باعتراف السنوسيين بالسيادة الإيطالية في برقة يهدد بفشل المفاوضات بصفة عامة ، ولذا فقد تأجل النظر في هذه الموضوع من الجانب السنوسي، غبر أن الإيطاليين تمسكوا بهذه النقطة بشدة. كان بند الاعتراف بسلطتهم شرطا بالنسبة للإيطاليين. و قدم الوفد الليبي شروطه كالآتي:

1 – وجوب اعتراف إيطاليا باستقلال السنوسيين.

2 – الاعتراف بشخص إدريس السنوسي أميراً على برقة.

3 – وضع حدوداً بين الأراضي الخاضعة لكل من الطرفين ( السنوسي والإيطالي).. فكل طرف يحتفظ بما تحت يديه من أرض، تحدد بخرائط واضحة مع عدم التعدي على أراضي الطرف الآخر.

4 – الإسراع بفتح الطرق التجارية وضمان سلامتها.

   كان الاتفاق مع إيطاليا يمثل ضرورة ملحة بالنسبة للسيد إدريس والوفد الموافق له مع أنه كان في صالح إيطاليا بدرجة أكبر. و يقال في المثل الليبي في هذا الخصوص ( الشر فيه ما تختار ). أي أن الإنسان قد يكون مضطرا في وقت من الأوقات للاختيار مابين أمرين .. كلاهما شر.. فعليه أن يختار أخف الشرور.

   انتهت المفاوضات بالاتفاق على الأسس التالية:

1 - تنتهي حالة الحرب بين السنوسيين و الإيطاليين وينادى بالسلام.

2 – يعترف الإيطاليون باستقلال السنوسيين داخل برقة.

3 – يبقى الايطاليون في الساحل ويحتفظون بما في حوزتهم من الأراضي الساحلية.

4 – تحدد مناطق النفوذ بين أراضي الطرفين.

5 – تفتح الطرق التجارية وتعود البلاد إلى حالة السلم ويكون الدخول والخروج بتصاريح.

6 – يعترف الإيطاليون بإدريس زعيماً للطريقة السنوسية في برقة.

   كما تم اعتماد الحدود بين الأراضي على خرائط في نهابة الاجتماعات واحتفظ كل طرف بنسخة منها. ومع كل ذلك لم ترض الحكومة الإيطالية بنتيجة المفاوضات ونقضتها على أساس أن مفاوضيها لم تكن لديهم صلاحيات التوقيع عليها. أصدر بعدها والي برقة الإيطالي ( جيوفاني أميلدا ) أمرا بقطع المفاوضات.

   بالنسبة للوفد الإنجليزي لم تكن هناك أية صعوبة في الوصول إلى اتفاق مع الليبيين.. إلا أن المشكلة كانت في إصرار الكولونيل تالبوت على اتفاق الليبيين مع الإيطاليين قبل أن يوقع هو على أي شيء. و يذكر أن الإنجليز طلبوا من إدريس السنوسي القبض على المصريين الذين تطوعوا للحرب ضدهم وتسليمهم لهم.. الأمر الذي رفضه السيد إدريس. غير أنه كانت هناك عوامل دعمت موقفه في المفاوضات كان من أهمها:

1 – لم بكن هناك منافساً قوياً له في برقة، فالجميع كانوا يؤيدونه، خاصة بعد فشل حملة أحمد الشريف ضد الإنجليز في مصر، وفي مقدمتهم قادة المجاهدين وضباطهم وشيوخ القبائل ورؤساء الزوايا الدينية مثل عمر المختار وإبراهيم المصراتي وخالد الحمري والشارف الغرياني ومنصور الكيخيا،وغيرهم الكثيرون.

2 – انشغال الجميع بالحرب العالمية الأولى التي كانت مستعرة جعل الأطراف المتحاربة غبر راغبين في فتح جبهات أخرى هم في غنى عنها.

3 – كان هناك ضباط أتراك وألمان ممن يدعمون موقف إدريس السنوسي مما جعل الإيطاليين يسعون إلى الوصول إلى اتفاق في أسرع وقت ممكن.

4 – كانت بريطانيا في ذلك الوقت تشجع العرب الثائرين ضد الحكم العثماني وتساعدهم على نيلهم استقلالهم و تكوين دول وإمارات مستقلة ، فشجعت سياستها  محمد إدريس على المطالبة بتكوين إمارة مستقلة في برقة لا تخضع للإيطاليين على غرار ما حدث في الحجاز ( ثورة الشريف حسين ) وفي عسير ( إمارة الأدارسة ).

   في أوائل سنة 1917م لعب محمد الشريف الإدريسي وابنه المرغني دوراً هاماً في إنجاح اتصالات أدت إلى موافقة الأطراف المعنية على استئناف المفاوضات. تضمن الوفد الإنجليزي الكولونيل تالبوت والضابط ابن السفير البريطاني في روما وأحمد محمد حسنين.. وجاء في الوفد الإيطالي الكولونيل أرتوري برينتو والكولونيل دي فيا ومترجم.

  بدأت المفاوضات مع بداية العام الجديد في عكرمة بالقرب من طبرق حيث كان يقيم الوفدان البريطاني والإيطالي، واتسمت بالحذر و الحيطة من الجميع وبذلت مساعي كبيرة لإنجاحها. وكان هدفهم الوصول إلى قرارات ترضي جميع الأطراف. تقدم الوفد الإيطالي بالمذكرة رقم

( 1 ) التي جاء فيها:

1 – حل المعسكرات السنوسية  وتسريح حامياتها.

2 – يتم نزع السلاح من رجال القبائل بصورة تدريجية في فترة زمنية قدرت بسنة واحدة.

3 – للحكومة الإيطالية تعيين شيوخ الزوايا الدينية التي تقع في مناطقها وذلك بمشورة إدريس.

   لم يوافق الوفد السنوسي على كل ما جاء في المذكرة الإيطالية وتقدم بالمذكرة رقم ( 2 ) :

1 – يقوم الإيطاليون بتنفيذ جميع طلبات الوفد السنوسي التي قدمها أثناء مفاوضات الزويتينة  العام الماضي 1916م .

2 – يرجأ البحث في نقاط المذكرة الإيطالية رقم ( 2 ) إلى مباحثات تتم في المستقبل.

   وتقدم الإيطاليون بمذكرة رقم ( 3 ) تحمل مقترحات جديدة وتنازل فيها عن بعض شروطه وتساهل في قبول بعض شروط إدريس الذي تقدم بعدها بالمذكرة رقم ( 4 ).

   استمرت المفاوضات من شهر يناير حتى منتصف شهر أبريل. وكان للضغوط التي مارسها الطرف البريطاني على الطرفين أثر كبير في التوصل إلى اتفاق يرتضيه الجميع. وكانت بنود الاتفاق كالآتي:

1 – إيقاف العمليات الحربية بين الطرفين ابتداءً من تاريخ هذه المعاهدة.

2 – يقف الإيطاليون عند النقاط التي كانوا يحتلونها في شهر أبريل 1917 و يتعهدون بأن لا يعملوا على إقامة وتجديد مراكز عسكرية مستقبلاً، على أن يكون هذا الشرط مقيدا للسنوسيين أيضاً.

3 – لا يحق لأي من الطرفين نهب أو اغتصاب أو أخذ ممتلكات الطرف الآخر.

4 – يعتبر كلا من الطرفين مسؤولا عن الأمن والسلام في المنطقة التي تخضع لنفوذه.

5 – يسمح لكافة التجار والعاملين بالتجارة الارتحال والمتاجرة مع الدواخل في ( طبرق و درنة وبنغازي) على أن تشمل حربة التجارة بقية الموانئ مستقبلا.

6 – بقاء جميع الزوايا السنوسية التي سيطر عليها الإيطاليون سابقاً تحت النفوذ السنوسي.

7 – تعفى جميع الزوايا السنوسية و ممتلكاتها من الرسوم و الضرائب.

8 – تدفع الحكومة الإيطالية مرتبات لمشايخ الزوايا الواقعة ضمن مناطق نفوذها على أن يقوم هؤلاء بدور الوسيط للسلطات الإيطالية وأهل البلاد حين الحاجة.

9 – يطبق على السكان الليبيين القاطنين في مناطق النفوذ الإيطالي قانون الأحوال الشخصية الإيطالي.

10 – تدريس القرآن الكريم وأصول الدين في المدارس والمساجد الليبية الواقعة ضمن مناطق النفوذ السنوسي.

11 – تعفى البضائع المستوردة للسنوسيين و طلابهم من الجمارك عدا تجارة السلاح.

12 – تقدم إيطاليا المعونة المالية و تسمح بتوصيل الأدوار بأقرب المراكز الإيطالية بالهاتف لتسهيل الاتصال و تبادل الرأي.

13 – يقوم محمد إدريس بإبعاد كل من يكدر العلاقات بينه وبين الإيطاليين.

14 – يؤجل النظر في مرتبات العائلة السنوسية.

15 – يلزم الاتفاق استعجالاً ويتفق الجميع على الإصلاح وإطفاء الفتن.

كما تم الاتفاق على تبادل الأسرى وإعادة فتح الأسواق.

ونص الاتفاق السنوسي الإنجليزي على الآتي:

1 – فتح طرق التجارة عند السلوم واتخاذ ميناء السلوم مركزا للتبادل التجاري، على أن يكون طريق الإسكندرية – السلوم الطريق الوحيد الذي تمر منه السلع إلى برقة.

2 – تسليم الضباط الأتراك وغيرهم من أعداء بريطانيا إذا وقعوا في قبضة إدريس مستقبلاً إلى الإنجليز.

3 – خروج جميع المسلحين التابعين للسنوسية وأعوانها من كل الأراضي المصرية.

4 – عدم قيام أي تجمعات عسكرية أو مدنية مسلحة قرب الحدود المصرية الليبية.

5 – صيانة أموال السنوسية في مصر.

6 – تسمح السلطات البريطانية في مصر بجمع المعونات المادية من أنصار الطريقة السنوسية ومؤيديها.

7 – تخضع واحة الجغبوب إلى إدارة وإشراف السنوسيين.

8 – يكف السنوسيون عن إنشاء زوايا دينية لهم داخل الأراضي المصرية.

9 – إبعاد المفسدين والعابثين بالأمن ومحدثي الشغب والقلاقل من مناطق الحدود بين البلدين.

10- إطلاق سراح المعتقلين في مصر من أتباع السيد أحمد الشريف.

11 – تسليم جميع الرعايا البريطانيين والمصريين التابعين لدول الحلفاء إلى الحكومة البريطانية في مصر.

   في نهاية المباحثات طلب رئيس الوفد البريطاني من إدريس السنوسي عدم السماح ببقاء مسلحين في واحة الجغبوب.. ورد عليه السيد إدريس بطريقة دبلوماسية في خطاب قائلا:

( ... إن الجغبوب واقعة في مكان سحيق في الصحراء وهي موصلة  لعدة طرق مع مصر ومع الجهات الغربية، والآن بما أن مهمتي حفظ النظام ومنع الدسائس في مصر و قطع دابر السرقات والتهريب، فلابد أن يكون لدي لهذا الغرض قوة يخشى الناس بأسها) . كما قال بأن وجود رجال مسلحين تابعين له مهم لحفظ الأمن في الصحراء.

  يري كثير من المؤرخين بأن معاهدة عكرمة في طبرق كانت خير وسيلة لتحقيق السلم و الحفاظ على مصالح الليبيين المجاهدين في برقة.. كما أنها أتاحت الفرصة لإدريس السنوسي لتنظيم القبائل تنظيماً من شأنه أن يجمع كلمتهم ويقضي على بذور الفتنة .. وساعد ذلك على تقوية نفوذ إدريس حتى لقبه الأهالي ( بالمنقذ ).

   كان من أهداف الطليان من المعاهدة تمكينهم من الاتصال مباشرة مع السكان والعمل على بسط نفوذهم داخل البلاد عن طريق هذا الاتصال المباشر. وقد أدرك السيد إدريس ذلك حق الإدراك وكان يعمل من جانبه على إفشال مخططهم. ولذا فقد تركزت جهوده في النقطتين الهامتين التاليتين:

أولا : إقامة حكومة وطنية رشيدة تحفظ مصالح البلاد وتتولى زعامة القبائل في برقة وتطالب بكل حقوقهم.

ثانيا : مقاومة نفوذ الطليان  منع اتصالهم بالعرب بكل الوسائل في داخل البلاد.

واستطاع محمد إدريس أن يكون حكومة وطنية فعلية عاصمتها اجدابيا عام 1917م

سنتكلم في المقالة القادمة عن حكومة برقة واتفاقية الرجمة بإذن الله.

    بعد التوقيع على اتفاقية عكرمة شكل السيد محمد إدريس الحكومة الوطنية واتخذ مدينة اجدابيا مفراً لقيادته للأسباب التالية:

1 – موقعها استراتيجي هام يبعد عن البحر بمسافة معقولة و يتصل بالخارج عن طريق مينائي الزويتينة و مرسى بريقة.

2 – تقع اجدابيا في مفترق طرق تجارية تربط الساحل بالواحات الجنوبية مثل جالو و أوجلة  و جخرة التي تقع على طريق القوافل إلى الكفرة والسودان مما يعطيها بعداً استراتيجياً هاماُ

 3 – من أهم المناطق التجارية التي تربط طرابلس ببرقة والواحات الجنوبية والمدن الساحلية وبين برقة وتشاد والسودان.

4 – تسكنها معظم القبائل المؤيدة للحركة للسنوسية.

5 – أهمية عسكرية لقربها النسبي من طرابلس.

6 – كان أحمد الشريف قد جعلها المركز الرئيسي لمحمد إدريس لإدارة برقة البيضاء في الترتيبات القديمة عندما كلن مشغولا في حملته على الإنجليز في مصر.

   تم تنظيم دواوين الحكومة السنوسية وتقسيم الإدارات وتنظيم الجيش .. وشكل نفوذ الحكومة المناطق من الحدود الليبية المصرية شرقاً وحتى قصر سرت غرباً فيما عدا المناطق الخاضعة لإيطاليا بالساحل.

   لقد اضطر السيد محمد إدريس إلى قبول ما وصل إليه باتفاق عكرمة نظراً للظروف القاهرة التي كانت سائدة آنذاك.. لم يكن الاتفاق يشكل استسلاما أو حتى قبولا بالواقع، وإنما كان لاجتياز تلك المرحلة الصعبة التي ذكرناها، إنقاذ البلاد وتوحيد الصفوف والتقاط الأنفاس، وأثبت عن طريقها حرص الحركة السنوسية على مصلحة وحماية البلاد. لقد كان أهل برقة في حاجة للتهدئة  الانتعاش. ثم تبع اتفاق عكرمة اتفاق الرجمة (25 أكتوبر سنة 1920م ) الذي اعترفت فيه إيطاليا بإمارة برقة و بمحمد إدريس أميرا عليها. لم توافق إيطاليا على ذلك إلا ظناً منها بأنها ستنجح في تقسيم ليبيا ، غير أن زعماء ليبيا في غرب ليبيا وطرابلس أفشلوا خططها بعقدهم مؤتمر غريان سنة 1921م و الذي سبق أن تحدثنا عنه بالتفصيل وأقرا ( في سبتمبر سنة 1922 ) مبايعة السيد محمد إدريس أميرا على كل البلاد الليبية. وكما أوضحنا سابقاً فقد تأثرت ليبيا بالحرب العالمية الأولى وانقسمت إلى معسكرين.. زعماء المنطقة الغربية .. سليمان الباروني و رمضان السويحلي وغيرهم.. و زعيم الحركة السنوسية في الشرق، أحمد الشريف ساندوا تركيا وألمانيا.. أما محمد إدريس مهادن الإنجليز.. بعد هزيمة تركبا وألمانيا ظهرت فكرة الجمهورية الطرابلسية التي بم بكتب لها النجاح. وانتهى المطاف إلى ما ذكرنا من مؤتمر غريان وما تبعه مكن أحداث.

   عمل السيد إدريس على تسوية الخلافات بين القبائل و كون نواة لجيش نظامي وتمكن بإتباع سياسة حازمة من القضاء على العناصر المجرمة التي كانت تعبث في البلاد فسادا من سبي ونهب وقتل.. من  قبل عصابات أطلقت على نفسها اسم ( حكومة الصلب ).

    كلف السيد صفي الدين بمسؤولية فض النزاعات بين القبائل وتم تكليف وكيله الشارف الغرياني باستلام الأسلحة والذخائر من الطليان لإنشاء مراكز أمنية على مناطق الحدود وتأمين سلامتها. كما قام بتقسيم برقة إلى منطقتين غربية وشرقية تقسيما إداريا. وشكل مجلسين:

1 – المجلس الخاص: ويضم كبار العلماء والإخوان ويملك السلطة التشريعية والتنفيذية معاً

2 – مجلس الأعيان:  يتكون من شيوخ وأعيان القبائل.

   كما أنشئت العديد من المعسكرات في مناطق العقيلة و البريقة وأسندت مهمة الإشراف عليها في بادئ الأمر إلى الشارف الغرياني ثم إلى حسين الجويفي..و كان توزيع تلك المعسكرات كالآتي:

- معسكرات التدريب الاحتياطي بمنطقتي العقيلة و البريقة ويقال لها ( خط النار ).

- معسكر المعية باجدابيا ( الحرس الخاص ).

 -  معسكر يضم قدماء المحاربين مقره اجدابيا.

- معسكرات الزويتينة  و الأبيار وجردي العبيد و مراوة وعكرمة و الخولان.

- معسكر خاص أطلق عليه اسم ( معسكر الطلبة) مرتبط بالقيادة مؤلف من الجنود الذين يحسنون القراءة والكتابة.

   كما أنشئت مراكز يتواجد بكل مركز منها قائمقام ( مأمور أو وكيل ) وقاض ونائب قاض للنظر فيما يتعلق بالأحكام الشرعية ومجلس من المشايخ برجع إليه حاكم المركز.. ومركز للشرطة لحفظ الأمن والنظام.

   كما شرعت الحكومة في بناء المدارس والاهتمام بالتعليم تحت إشراف مجموعة من العلماء في مسجد اجدابيا الكبير ومعهد الجغبوب، و ازدهرت التجارة و استتب الأمن في جميع  أنحاء برقة بعد أن كادت المجاعة أن تقضي عليهم. كما عين السيد عمر باشا منصور الكيخيا ممثلا محمد إدريس في بنغازي لتوثيق الصلات مع الوالي الإيطالي هناك بما يخدم مصلحة الوطن.. وكان السيد الكيخيا نائيا عن برقة في المجالس العثمانية في استانبول قبل الاحتلال الإيطالي لليبيا وذو خبرة سياسية ودبلوماسية عاليتين.

اتفاقية الرجمة:

   حاولت إيطاليا بسط نفوذها في برقة على كل الأراضي البرقاوية ولم تكن راضية تماماً عن اتفاقية عكرمة وحاولت التقرب من الأهالي وأصدرت ما يسمى ( بدستور برقة) الذي نص على أن يعين ملك إيطاليا واليا يشرف على شؤون برقة المدنية والعسكرية وعلى تكوين مجلس نواب محلي عن الحضر والبدو وغيرها من الإجراءات الني كانت يتمكن لهم من السيطرة الكاملة. رفض مشايخ القبائل تلك البادرة وعقد اجتماع في اجدابيا ضم حوالي المائة شيخ وتقرر ( أنهم لا يقبلون بالإيطاليين إلا في مدن الساحل على أن يقتصر عملهم هناك على التجارة...). وكان من الضروري عقد مفاوضات جديدة تمت في الرجمة لوضع الأمور في نصابها..  و تم تقسيم المنطقة إلى شمال : وفيه السواحل والجبل الأخضر ويخضع للسيادة الإيطالية.. والجنوب: ويشمل الجغبوب و الواحات والكفرة ويكون إدارة مستقلة هي الإمارة السنوسية ويلقب السيد محمد إدريس بأمير برقة ويكون اللقب وراثيا. كما أن له الحق بالتجول في جميع أنحاء برقة والتدخل في المناطق الإيطالية متى شعر بالحاجة إلى ذلك. كما أعلنت إيطاليا بأنها لا تنوي نزع ملكية أراضي الأفراد أو الزوايا في المناطق الخاضعة لها؟  وتعهد أمير برقة بحل الأدوار وتسريح الوحدات العسكرية في مدة أقصاها ثمانية أشهر على أن يحتفظ بألف جندي فقط لحفظ النظام والإدارة، كما رضيت إيطاليا بتقديم مساعدات مالية للإمارة لتنظيم شؤونها الإدارية.

   تم انتخاب مجلس نيابي عام 1921 واختير السيد صفي الدين رئيساً له.. وكان ذلك المجلس الأول من نوعه في البلاد العربية واستمر حتى مارس 1923 وعقد خمس جلسات..

   عند توقيع الاتفاقية في 25 أكتوبر سنة 1920م كانت تتكون من مقدمة و عشرين مادة. ويلاحظ أنه بعد مرور المدة المتفق عليها لحل الأدوار العسكرية لم يقم الأمير إدريس بحلها .. بل قام بتعميرها وتقويتها بأفراد من المقاومة السنوسية. وكانت تلك الأدوار منتشرة على أراضي إمارة برقة. كان كل دور عبارة عن وحدة إدارية و عسكرية وقضائية متكاملة . في 11 نوفمبر سنة 1921م توصل الطرفان في اتفاق ( بو مريم) إلى صيغة إنشاء أدوار مخالطة يكون فيها السنوسيون والإيطاليون بنسبة 4إلى 5.. وتكون القيادة فيها مشتركة. ولكن يلاحظ بأن ذلك لم يكن حلا دائما وإنما تمريرا للوقت إلى حين بدء القتال من جديد. 

    ذكرنا فيما سبق بأن مستشار الأمير محمد إدريس السيد عمر منصور الكيخيا حاول أن يحدث توافقاً بين سياسة الأمير مع الطليان وحرصه على وحدة الصف واجتماع الكلمة تحت زعامته، وانعقدت اجتماعات ومناقشات.. بعد البيعة.. واستمرت المحاولات نحو أربعين يوماً، ولم يهتد الباحثون إلى حل  وتقرر مغادرة الأمير محمد إدريس اجدابيا إلى مصرفي الثاني من جمادي الأولى سنة 1341 هجرية الموافق 2 ديسمبر سنة 1922م.، كما ذكر بأن ذلك السفر كان إثر مرض ألم به ونصحه الأطباء بالسفر إلى مصر للعلاج. و كانت العلاقات بين السنوسيين والطليان قد تعكرت قبل ذلك بسبب حرص الطليان و تأكيدهم على نزع سلاح مجاهدي القبائل، كما تم اعتقال الشيخ المجاهد العوامي قبل سفره ظلماً وزوراً، وكانت هناك محاولة للقبض على السيد صفي الدين السنوسي باءت بالفشل .

  يقول المؤرخون بأن الأمير إدريس اضطر لاتخاذ قرار الهجرة لعلمه بدقة الموقف وحساسيته في تلك المرحلة، وبسبب التطورات السياسية والعسكرية التي حدثت في المنطقة. كان قد حاول إقناع الآخرين باستحالة تحقيق نصر عسكري على الإيطاليين بسبب ضعف تسليح المجاهدين ضد الجيش الإيطالي المدجج بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة والطائرات.. مما يزيد في إراقة دماء الليبيين و تحطيم معنوياتهم بدون فائدة تذكر، كما كان يعول على الدبلوماسية والسياسة لحل أزمة البلاد، فكانت النتائج التي وصل إليها باتفاقية عكرمة و الرجمة وأبي مريم أقصى ما استطاع الوصول إليه في صالح البلاد. ثم حدثت تغيرات وانقلب الطليان، وخاصة بعد وصول الفاشيست إلى الحكم فنقضوا كل الاتفاقيات المبرمة مع الليبيين في برقة وقاموا بحل الأدوار واحتلال اجدابيا وقبضوا على بعض قادة الجهاد وكان في نيتهم القبض على ادريس نفسه. كانت أهميته بالنسبة لليبيين تكمن في حنكته السياسية وسعة نفوذه وقدرته على التفاوض السياسي ومعرفته بالقضايا الدولية. كان من الضروري مراقبة الوضع من الخارج وتحين الفرص مع البقاء على اتصال بالداخل وجمع التأييد و تقديم المساعدات من الخارج.

   قبل سفره عهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقه إلى الشيخ عمر المختار و أنابه عنه في تنظيم الأدوار ومعسكرات المجاهدين، و اتفق معه على بعض المجاهدين المقتدرين لقيادة معسكرات المجاهدين في برقة والذين كان من بينهم السادة والشيوخ محمد الصديق الرضا وأخيه الحسن الرضا وقجة عبد الله السوداني و الفضيل بوعمر ويوسف بورحيل وحسين الجويفي وعبد الله بوسلوم،على أن تكون هذه المعسكرات كلها تحت قيادة عمر المختار. وأوكل المسائل الدينية والشؤون الخاصة بالعائلات السنوسية إلى أخيه السيد محمد الرضا. كما ناقش مع السيد بشير السعداوي أمر استمرار الجهاد في طرابلس و المناطق الغربية ضد الطليان، وكان قبل ذلك أن تقدم بشير السعداوي بمقترح تكوين هيئة مركزية في برقة من رؤساء القبائل تكون مهمتها إدارة الإمارة ووافق الأمير على الاقتراح وأسند رئاستها إلى الشيخ مختار الغدامسي، وكان قاضي شرعي ومن كبار علماء البلاد. اجتمعت الهيئة عدة مرات بعد مغادرة الأمير إدريس وحضر السيد بشير السعداوي تلك الجلسات، الني نوقشت فيها  أمور تتعلق بالتنسيق للجهاد ضد الإيطاليين، واقترح بشير السعداوي تكوين جبهة موحدة من طرابلس وبرقة وتمت الموافقة على ذلك الاقتراح.

   سافر السعداوي و معه صفي الدين السنوسي يوم 21 رجب سنة 1341 هجرية ، الموافق 9 مارس سنة 1932م إلى الغرب وبرفقتهم مجموعة من كبار المجاهدين من بينهم أحمد باشا سيف النصر وعمر سيف، وانظم إليهم السادة خالد بك القرقني وعثمان بك الجيزاني واتجهوا إلى سرت، وفي الطريق وصلهم نبأ استشهاد محمد سعدون السويحلي، وكان من خيرة قواد العمليات العسكرية الأخيرة. من سرت اتجهوا إلى وادي نفد الواقع بين مصراته و ورفلله حيث التحق بهم أحمد شتيويوكان متصرفا على مصراته ومن أخوة رمضان السويحلي،  ومن هناك توجهوا إلى معسكر المجاهدين العام.

   كانت مساعي السعداوي جبارة لحشد المجاهدين حول السيد صفي الدين وتحت زعامة السنوسية، وكان قائد المجاهدين الطرابلسيين في وادي نفد مدة ثمانية أشهر استمرت من شعبان سنة 1341 هجرية وحتى شهر جمادي الأولى من سنة 1342هجرية، الموافق من أبريل – ديسمبر 1923م . وبعد عدة أشهر بدأ زعماء المجاهدين في ترك المعسكر الذي لم يبقى فيه سوى أحمد السويحلي.. وكانت القوات الإيطالية تتقدم في منطقة طرابلس الواحدة تلو الأخرى واضطر صفي الدين أمام تقهقر المجاهدين وضعف المقاومة إلى السفر إلى جالو ثم بعث إلى الأمير إدريس في مصر يخبره بما حدث.

   لم يتوقف بشير السعداوي عن العمل المتواصل لجمع كلمة المجاهدين ومواصلة الكفاح المرير، وعقد لهذه الغاية عدة اجتماعات في القرضابية و قصر بوهادي واستطاع تأسيس مركزا للجهاد في بوهادي وتسلم القيادة في سرت وبدأ في جمع شتات المنهزمين اللاجئين إلى سرت الذين بلغ عددهم قرابة خمسين ألف مجاهد، مما ساعد على الصمود في مصراته ضد جحافل الجيش الإيطالي المجهزة بأحدث العتاد الحربي والطائرات. واندحرت قوات المجاهدين ثم تم القضاء على المقاومة نهائيا بعد هجوم الطليان على ورفلله واحتلالها. واضطر بشير السعداوي إلى مغادرة سرت في عام 1924م

   كان السيد بشير السعداوي من أكثر المجاهدين حماسة للقتال في تلك الفترة العصيبة من الجهاد ومن أعظمهم مثابرة على الجهاد. كان رجلا رزينا متميزا برجاحة العقل هادئ الطباع بعيد النظر وقادرا عل تحليل وقائع الأمور والاستنتاج.

   جاء في أقوال الكثيرين بأن خروج السيد بشير السعداوي كان مؤذنا بنهاية الثورة ضد الطليان في طرابلس حيت استتب لهم الأمر.. وبقيت برقة وحدها لتتحمل عبء المقاومة ضد العدو الشرس.

   يقول الأمير إدريس بأنه بعد بضعة أشهر من وصوله إلى مصر أبلغه الوزير الإيطالي المفوض في القاهرة بأن حكومة موسوليني قد ألغت كافة العقود المبرمة معه.. كان ذلك في مايو 1923م، كما أن الإيطاليين ألقوا القبض على عمر باشا العابدية ونقلوه إلى معتقلات في المنفي بإيطاليا.. ويقول أيضا بأنه بعد عدة أشهر طلبت إيطاليا من الإنجليز تسليمه إليهم وتعهدت بعدم التعرض له بضرر. غير أن الإنجليز رفضوا الطلب، و منذ ذلك الحين بدأ الجهاد مرة أخري في برقة بقيادة عمر المختار و بلا هوادة.

 جهاد الليبيين في المهجر:

   هاجر الليبيون إلى البلدان الأخرى هربا من الظلم والجور والفتك الإيطالي بهم.. ثم شرعوا في جمع شتاتهم استعدادا لما سيأتي، عاقدين العزم على مواصلة الكفاح حتى تحرير البلاد. لم تكن حياتهم في المهجر نعيما وضاقوا شتى أنواع الذل والهوان. وبالرغم من ذلك واصلوا الجهاد حتى ضاق بهم الطاليان ذرعا.

   برز في مصر إدريس السنوسي الذي  قال الجنرال غراسياني عنه: ( إذا أردنا أن نقضي مرة واحدة على العصيان يجب أن يغيب إدريس من عالم الوجود، فإذا مات هو مات معه التمرد و العصيان، يجب لتحقيق هذا أن نضغط على مصر حتى تسلمه لنا ، أو نقضي المهمة وراء ستار).

   أما بشير السعداوي فقد ظهرت جهوده على الساحة في بلاد الشام، فأسس هو ومن معه من الوطنيين ( جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي بالشام ) وانتخب السعداوي رئيسا لها. و كان من أعضائها السيد عمر فائق شنيب سكرتير الجمعية و أمين الصندوق فوزر النقاش وعبد الغني الباجقني وكامل عياد وعبد السلام أدهم البمباشي طارق ومحمد ناجي التركي ومصطفى بن نوح و أحمد راسم و أبوبكر قدورة و أبوبكر التركي وخليفة بن شعبان.

   اضطلعت الجمعية بموضوع التوعية .. فنشرت الكثير في الصحف والمجلات عن الفظائع التي يرتكبها الطليان في ليبيا وعملت على كشفهم لدى الرأي العام العالمي. وفي سنة 1929 وضعت الجمعية الميثاق الوطني للشعب الطرابلسي البرقاوي الذي نصت مواده على ما يلي:

المادة الأولى:  تأليف حكومة وطنية ذات سيادة قومية لطرابلس وبرقة يرأسها زعيم مسلم تختاره الأمة.

المادة الثانية:  دعوة جمعية تأسيسية لسن دستور البلاد.

المادة الثالثة:  انتخاب الأمة مجلسا نيابيا حائزا على الصلاحية التي يخوله إياها الدستور.

المادة الرابعة:  اعتبار اللغة العربية الرسمية في دواوين الحكومة والتعليم.

المادة الخامسة:  المحافظة على شعائر الدين الإسلامي وتقاليد القطر في جميع أرجائه.

المادة السادسة:  العناية بالأوقاف وإدارتها من قبل لجنة إسلامية منتخبة.

المادة السابعة:  العفو العام عن جميع المشتغلين بالسياسة داخل القطر وخارجه.

المادة الثامنة:  تحسين العلاقات والمصالح بين الأمة الطرابلسية البرقاوية والدولة الإيطالية بمعاهدة خاصة يعقدها الطرفان ويصدقها المجلس النيابي.

   تم فتح فرع للجمعية في تونس سنة 1930م برئاسة محمد عريقيب الزليطني، وكان الأمير إدريسيمدها بالمساعدات المالية والمعلومات الجديدة عن ليبيا وحققت نجاحات قيمة وتمكنت من تدعيم مركزها ومتابعة النشر والقيام بالحملات الإعلامية، طالبة من الدول الإسلامية والعربية الوقوف مع الشعب الليبي ومساندته بشتى الطرق. كما عممت اللجنة التنفيذية للجاليات الطرابلسية البرقاوية نص الميثاق على الشعوب العربية واستطاعت الجمعية في الشام توسيع دائرتها ونشاطها وطلبت منالصحفي الكبير شكيب أرسلان في سنة 1929م الوقوف معها|، فشرع في الكتابة عن مخازي ومظالم الطليان في ليبيا و معاناة الشعب الليبي في الصحف والمجلات العالمية والعربية مما جعل الرأي العام العالمي ينتبه إلى قضية الشعب الليبي وكفاحه من أجل التحرر. لقد نجحت الجمعية في الحرب الإعلامية وشاركت في المؤتمر الإسلامي في القدس وعرضت قضيتها في نص الوثيقة التاريخية التي قدمتها للمؤتمر الموقعة من السيد السعداوي رئيس اللجنة التنفيذية بتاريخ 26 رجب سنة 1350هجرية الموافق 6 ديسمبر1931. وحيث أن الوثيقة طويلة فلا يتسع المجال لسردها بالكامل في هذا السرد المختصر جدا.. لذا أنصح بالاطلاع عليها في المصادر التي سأذكرها في نهاية هذا السرد. جاء في الوثيقة تصوير حي لما حدث على الساحة الليبية منذ الاحتلال الإيطالي إلى تلك اللحظة .. وذكر الجهاد الليبي والمعاهدات التي وقعت وكيف غدر الإيطاليون بالليبيين والفضائع التي ارتكبت ضدهم من تقتيل وشنق على أعمدة المشانق والمعتقلات الجماعية، طالبين من الدول الإسلامية الوقوف مع الشعب الليبي الذي يدافع عن أرضه وعرضه ودينه.

   لقد كان السيد السعداوي من الشخصيات الفريدة في التاريخ الليبي المعاصر وتصدى  للاستعمار الايطالي في ليبيا وقام بدور فعال في حركة الجهاد في المهجر، بعد أن أخضعت إيطاليا منطقة طرابلس بالكامل وتوقف حركة الجهاد في المنطقة. في سنة 1940 أعيد تشكيل اللجنة التنفيذية ليصبح الدكتور كامل عيد رئيسا لها والسيد عبد الغني الباجقني أمينا للسر مع آخرين تحت إرشاد الأمير إدريس السنوسي.

   احتلت إيطاليا الحبشة سنة 1936م وكان الليبيون المجندون وقودا لحربها هناك. لم تنجح عصبة الأمم آنذاك في فرض عقوبات على إيطاليا . كان من الممكن أن يكون ذلك في صالح تقارب بين بريطانيا والمجاهدين الليبيين لولا المصالح البريطانية في التهدئة مع إيطاليا، ولم يفلح اللقاء بينإدريس السنوسي وأدميرال الأسطول البريطاني بالإسكندرية .. الذي حدث بناء على طلب إنجليزي.. لم يفلح في جعل بريطانيا تقف ضد إيطاليا وذلك لانتهاج بريطانيا سياسة التهدئة في أوربا في ذلك الوقت، غير أن الموقف تغير مع اقتراب الحرب العالمية الثانية..  

   كانت بداية الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر سنة 1939م عندما هجمت ألمانيا النازية على بولندا. ولم تدخل إيطاليا الحرب آنذاك إلى أن سقطت فرنسا في بأيدي الألمان. فأعلنت الحرب على إنجلترا وفرنسا في 10 يونيو 1940م وكان ذلك بمثابة دق المسمار الأول في نعش الإمبراطورية الإيطالية في أفريقيا. وما أنت دخلت إيطاليا الحرب حتى تحرك الليبيون في المهجر وبدؤوا  في العمل للاستفادة من الوضع لصالح تحرير ليبيا. اتصل فريق منهم بالمفوضية الفرنسية في القاهرة واتصل بعضهم بالجنرال الفرنسي نوجس في الجزائر وتم الاتفاق على تجهيز حملة من الليبيين المتواجدين في تونس والجزائر للعمل العسكري ضد إيطاليا في ليبيا. غير أن استسلام فرنسا قوض المحاولة.

   أما السيد إدريس السنوسي فقد تحرك في مصر بمجرد أن اتضح له بأن الحرب العالمية واقعة لا محالة، وكان أول شيء فعله هو دعوة الزعماء الليبيين للاجتماع والتشاور ودراسة احتمالات الموقف، ومن ثم وضع الخطط المناسبة و الكفيلة بتحقيق نصر لليبيين على الطليان وتحرير البلاد. وعقد اجتماع تاريخي في منزل الأمير إدريس بمنطقة فيكتوريا بالإسكندرية  بتاريخ 6 رمضان سنة 1358 هجرية الموافق 20 أكتوبر سنة 1939م حضره قرابة الأربعون شيخا من الزعماء الليبيين المتواجدين في مصر، واستمر اللقاء ثلاثة أيام متتالية وتمخض عن اتخاذ قرار بتفويض الأمير محمد إدريس لمفاوضة الحكومتين المصرية و البريطانية بشأن تكوين جيش سنوسي بمكنه الاشتراك في الحرب من أجل تحرير ليبيا من العدو الإيطالي عند دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا. ثم تم التوقيع على الوثيقة التاريخية المهمة بتاريخ 9 رمضان سنة 1358 هجرية الموافق 23 أكتوبر سنة 1939م. وهذا نص الوثيقة:

( بعد حمد الله والصلاة على رسول الله قد اجتمع زعماء ومشايخ الجالية الطرابلسية البرقاوية المهاجرين بالديار المصرية في اليوم السادس من شهر رمضان المعظم سنة 1358 هجرية بالإسكندرية وتشاوروا في حالتهم الاستقبالية و قر قرارهم على انتخاب من يمثلهم في كل الأمور و يعرب عن آرائهم  وبذلك وضعوا ثقتهم في سمو السيد محمد إدريس السنوسي الذي يمثلهم تمثيلا حقيقيا، لما له من المكانة الرفيعة في نفوسهم حيث يرونه أحسن قدوة يقتدي بها. وقد قبل منهم ذلك على أن تكون هيئة منتخبة شورية مربوطة به ومربوطا بها لتكون الأداة المبلغة و المعربة عن منتخبيها وهي التي تمثل جميعهم تمثيلا صحيحا، وأن يعين وكيلا لها يقوم مقامه في حالة الغياب ويكون من أفراد الهيئة في حالة حضوره، وللهيئة الحق في تثبيت هذا الوكيل أو رفضه بـغالبية الأصوات، وعليه حرر هذا التوقيع رؤساء القبائل الطرابلسية البرقاوية، والمولى سبحانه وتعالى يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه)

   وقع على هذا التفويض واحد وخمسون شيخا منهم من المجاهدين القدماء يمثلون جل القبائل الطرابلسية البرقاوية.. وسرعان ما بادرت جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي لعقد اجتماع في دمشق بتاريخ 29 شوال سنة 1358 هجرية واطلعت على صورة القرار المذكور ووافقت علبه وأصدرت البيان التالي:

( إن جميع الزعماء ورؤساء القبائل وكبار المجاهدين يدون استثناء اتفقت كلمتهم وتعاهدوا جميعا على أن يدينوا بالولاء و الطاعة والإخلاص لسمو الأمير إدريس المهدي السنوسي، وأنهم عقدوا عليه الآمال في حالهم وستقبلهم ليمثل أمام الحكومات و السلطات والهيئات أماني القطر الطرابلسي البرقاوي تمثيلا حقيقيا صحيحا، ويتكلم باسم الجميع على أن تكون هيئة منتخبة منهم وله نائب يقوم مقامه عند مسيس الحاجة، وتليت التوقيعات فتبين أنها هي توقيعات من بأيديهم الحل والعقد في القطر الطرابلسي البرقاوي من الأحرار الذين عاهدوا الله على الدفاع عن الوطن وحقوق الأمة، فكان ما جاء فيه من الغاية السامية أبلغ الأثر في نفوس الجميع، لأنه حقق رغباتهم الصادقة في توحيد الكلمة، و برهن على ثبات هذه الأمة في المطالبة بحقوقها وولائها بالإمارة أولا و آخرا،وهو محط آمال الجميع في الحاضر و المستقبل لإخلاصه للوطن و دفاعه المجيد عنه ولا يوجد من يشذ عن آرائه الصائبة ولا من يخالفه في التضحية بالنفس والنفيس في سبيل سعادة الوطن والأمة وإعلاء كلمة الله ، قرر الجميع تأييد قرار إخوانهم الطرابلسيين البرقاويين في القطر المصري بدون قيد ولا شرط، وكلفت الهيئة تنظيم هذا القرار الجماعي للإعراب لسمو الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي في الثقة التامة به و الولاء الكامل له مادام متمسكا بكتاب الله وسنة رسوله صل الله عليه وسلم، متخذا التأهبات اللازمة للقيام لعمل جدي حين تدعو الظروف إليه، وهذه تواقيعنا تشهد أمام الله والوطن بعهدنا هذا، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، والله ولي الجميع)

    يقول  السيد إدريس ( ملك ليبيا فيما بعد ) بأنه بعد إعلان إيطاليا الحرب على بريطانيا في 10 يونيو سنة 1940م اتصل به في مقر إقامته بمنطقة الحمام الجنرال ويلسون.. آمر القوات البريطانية في مصر تحت قيادة الجنرال ويفل، وطلب منه المساعدة في المجهود الحربي ضد الإيطاليين، وبأنه.. أي السيد إدريس.. قد دعا الزعماء الليبيين للاجتماع في القاهرة لمناقشة ما ينبغي اتخاذه من إجراءات لتحديد موقفهم من الحرب. كما قال بأن البرقاويين لم يبدو أي اعتراض على لانتهاز الفرصة لاستئناف الجهاد ضد الإيطاليين وكان هناك ترددا من بعض الطرابلسيين خوفا من أن تنتصر إيطاليا وألمانيا في الحرب مما يكون له أثر سلبي عليهم وعلى أسرهم. كما ذكر أيضا بأنه كان شخصيا واثقا من نصر الحلفاء لثقته في قدرة بريطانيا على تحقيق النصر.

 ويستطرد السيد محمد إدريس قائلا بأنه قد صدر قرار بالأغلبية (باستثناء بعض الطرابلسيين ) معبرا عن الثقة في الحكومة البريطانية والاعتراف به مفوضا عن الليبيين في علاقاتهم مع بريطانيا كما تم الاتفاق على تكوين جيش ليبي تحت اسم ( القوات العربية الليبية ) للقتال إلى جانب القوات البريطانية ضد الإيطاليين.. يقول أنه بعد ذلك أصدر تعليماته الفورية بالبدء في تجنيد جيش من الليبيين المقيمين في مصر كما تم تعيين ضابط بريطاني ( الكولونيل بروميلو ) قائدا لذلك الجيش. ولم يلبث أن تكون الجيش من قوة قوامها أربعة كتائب قتالية وكتيبة أركان كان معظمهم من البرقاويين، وكان مقر المعسكر ومستودعات الأسلحة والذخيرة عند الكيلو  9 بجوار الأهرام. كان مكتبه في القاهرة وكان يقوم بالأعمال الضرورية لحل المشكلات المتعلقة بالإشراف على التجنيد والرفع من القدرة التالية للمجندين الذين كانوا كلهم على أحر من الجمر لخوض القتال. وفي معركة قرب سيدي براني لحقت بجيش غرسياني أول هزيمة في ديسمبر 1940م ووقع آلاف اللبيبين المجندين في الجيش الإيطالي في الأسر و نقلوا إلى معسكرات أسرى الحرب في منطقة قناة السويس، وقال بأنه كلن يتردد عليهم باستمرار محاولا إقناعهم بالانضمام إلى القوة العربية الليبية وبأن أغلب الطرابلسيين امتنعوا خوفا من التعرض للانتقام من قبل الإيطاليين من جهة ، ومن جهة أخرى لأنهم كانوا سعداء بمجرد الخروج من خضم الحرب. كانت وحدات من الجيش الليبي ترسل إلى خطوط القتال أولا بأول حالما ينتهي تدريبها ومنها كتيبتان شاركتا في معركة الدفاع عن طبرق عام 1941م. كما كان يوجه نداءاته إلى الليبيين في الداخل عبر الإذاعة يدعوهم  فيها إلى الوقوف مع بريطانيا ضد الطليان.

الليبيون في الحرب:

   قامت كتائب المجاهدين بدور بارز في حرب الصحراء إلى جوار القوات البريطانية، كما لم يقصر المدنيون في تقديم المساعدات الجريئة بعد أن أصبحت ليبيا ميدانا للاقتتال وحقلا مزروعا بالألغام. آوت القبائل البرقاوية الجنود البريطانيين الفارين من الأسر وأوصلتهم إلى مواقع وحداتهم إذا ضلوا الطريق مما ساعد الوحدات البريطانية العاملة خلف خطوط الألمان والإيطاليين في تنفيذ مهامهم و من بينها مفرزة العمليات الصحراوية البعيدة المدى وقوة بنياكوف لحرب العصابات التي اشتهرت باسم (ة جيش بوسكي الخصوصي ).. واعترف البريطانيون رسميا بالمساعدات التي قدمها الليبيون بقيادة السيد إدريس السنوسي في تصريح وزير خارجيتهم ( إيدن ) أمام مجلس العموم البريطاني بتاريخ 8 يناير سنة 1942. و يمكنكم الاطلاع على نص الخطاب في المصدر ( الملك محمد إدريس السنوسي للكاتب د, الحسيني الحسيني معدي) والذي ذكر فيه على الخصوص اتصال السيد إدريس بهم قبل شهر من سقوط فرنسا. كذلك أنوه على ما قاله من أن بريطانيا مصممه على أن لا يعود السنوسيون في برقة بأي حال من الأحوال للوقوع تحت السيطرة الإيطالية مرة أخرى بعد انتهاء الحرب..  لهذه الكلمات أهمية كبيرة حيث يتضح منها بأن البريطانيين كانوا يخططون لشيء آخر غير استقلال ليبيا .. وهذا ما سنأتي على ذكره فيما بعد.

آثار الحرب على برقة:

   كانت برقة والصحراء الغربية في مصر مسرحا لأطول وأشد المعارك خلال الحرب العالمية الثانية، دمرت خلالها جميع المدن و القرى الليبية والموانئ والمطارات والطرق التي شيدها الإيطاليون على مدى عشرات السنين.. لقد كان لعمليات الكر والفر بين قوات بريطانيا وحلفاؤها، ومن بينهم القوات العربية الليبية وبين الألمان والإيطاليين الأثر السيئ بجلب الدمار الهائل والخراب في جميع المناطق. كان في كل مرة يرجع فيها الإيطاليون إلى منطقة تنسحب منها القوات البريطانية يقومون بالانتقام من الأهالي لوقوفهم ضدهم مع البريطانيين ,, وكانت تقوم بإعدام العشرات منهم .. وقصة الثلاثمائة شهيد الذين قامت إيطاليا بشنقهم في مدينة المرج معروفة لدى المهتمين بتاريخ ليبيا ( مذكرات السيد إبراهيم الغماري، معتقلات العقيلة ).

تسليم طرابلس:

   التقى الجيشان .. الثامن البريطاني بقيادة الجنرال مونتجمري والفرنسي بقيادة الجنرال ليكرك حول مدينة طرابلس في يناير سنة 1943م .. لحظة وصفها الحاكم الإيطالي بأنها كانت رهيبة توقعوا فيها العنف من قبل الحلفاء.. وذكر بمرارة كيف أن النخبة من الضباط الإيطاليين قد هربوا ونهبوا ما يسهل حمله تاركين بقية الإيطاليين لمصيرهم.. على حد قوله. و في يوم 23 يناير 1943 تسلم مونتجمري مدينة طرابلس من الحاكم الإيطالي رسميا بمنطقة بن غشير في حضور نائب الحاكم و رئيس البلدية، وانتزعت بقية البلاد من الهيمنة الإيطالية ليتم احتلالها من قبل الإنجليز والفرنسيين. تم اعتقال قادة الفاشيست وأغلقت المدارس والنوادي والمنظمات الاجتماعية. وأصبحت ليبيا تحت الاحتلال البريطاني ( برقة و طرابلس ) و الفرنسي ( فزان ) بموجب اتفاق عقد بين الجنرال الكسندر الإنجليزي والجنرال ليكرك الفرنسي. 

   كان مونتجمري قد أعلن في 11 نوفمبر سنة 1942م في رسالة إلى الشعب الليبي في منطقة برقة بأن المنطقة ستدار من قبل حكومة عسكرية بريطانية حتى نهاية الحرب العالمية، وليس حتى نهاية الحرب في شمال أفريقيا، كما أضاف قائلا بأن الحكومة لن تتدخل في المسائل المتعلقة بالشؤون السياسية الخاصة بالمستقبل ، ولكنها ستحكم بحزم وعدل وبالنظر إلى مصالح الشعب في البلد.

أثر الليبيين في القتال:

   كان الدور الذي لعبه الليبيون أثناء الحرب فاعلا ونشيطا طيلة مدة الحرب العالمية الثانية على الأرض الليبية من سنة 1940 وحتى سنة 1943م. حارب الليبيون جنبا إلى جنب مع الجنود البريطانيين و ساند الأهالي المدنيون قواتهم خلف خطوط المواجهات وترك المجندون من قبل الإيطاليين الجيش الإيطالي كلما سنحت لهم الفرصة، والتحق الكثير منهم  بالبريطانيين. لقد انتقد بعض القادة من الليبيين سياسة السيد إدريس في تأييد بريطانيا قبل الحصول على ضمانات أكيدة باستقلال ليبيا. وزاد ضغطهم لدرجة أن البعض منهم هدد بالانسحاب من التعاون مع بريطانيا. وفي الحقيقة، وكما ذكرنا سابقا، فإن كل ما وعد به البريطانيون جاء على لسان وزير خارجيتهم في مجلس العموم في يناير سنة 1942م والذي قال فيه ( أن حكومة صاحبة الجلالة مصممه في نهاية الحرب على أن لا يرجع السنوسيون في برقة بأي حال تحت السيطرة الإيطالية ). و لم يعد حتى باستقلال برقة ، ناهيك عن استقلال ليبيا بأكملها.. ولم يذكر طرابلس بشيء، مما كان ينذر بنية البريطانيين الحلول محل الإيطاليين في السيطرة على البلاد بالكامل. وحتى بعد رفض بريطانيا لحق إدريس في المطالبة باستقلال ليبيا في فبراير عام 1942 اضطر إدريس إلى القبول بوعودهم الشفهية التي أعطيت له .وهكذا حكم القوي على الضعيف. الشعوب الصغيرة والضعيفة تضطر في أغلب الأوقات لقبول ما تمليه القوى العظمى  في خضم السياسة الدولية.. سياسة البوارج وحاملات الطائرات ..و كما هي الحال الآن .. الطائرات بدون طيار والعولمة .. إذا كانت الدول الآن ترزخ تحت نار الغرب والشرق المحرقة ولا تستطيع عمل شيء بدون موافقتهم في مجلس الأمن وغيرة.. مع أن الدول الآن في مراحل متقدمة جدا مقارنة بليبيا في ذلك الوقت الذي كانت فيه البلاد مدمرة تماما و تحتاج للتعليم والخدمات الطبية و الإعمار، فكيف كان لمحمد إدريس أن يتصرف بطريقة أخرى. كان الجميع محقون في طلب الاستقلال  ولكن لم يثكن من السهل الحصول عليه بسهولة في وجود أطماع لدى الدول الكبرى والقوية.

الطريق نحو الاستقلال:

كفاح الليبيين من أجل الاستقلال:

   يعتقد البعض بأن الاستقلال كان سهلا ولم يتكبد فيه الليبيون العناء والتعب.. لقد كان ثمرة كفاح طويل ضحى فيه الليبيون بكل نفيس وغالي. ضحوا بأرواحهم وأرواح ذويهم وقبائلهم وسنين من عمرهم وشبابهم؛ ليأتي في سبتمبر سنة 1969 من يقلب الأمور ويشوه التاريخ.. وي كأن تاريخ ليبيا لم يبدأ إلا حين أتى هو ومجموعته المضللة.. نسي أن تاريخ ليبيا يرجع للآلاف السنين من التبعية والاضطهاد والاستعمار الفينيقي والإغريقي والروماني و البيزنطي و النورماندي والمالطي من قبل فرسان القديس يوحنا والتركي والإيطالي والبريطاني.. نسي أن الشعب الليبي كان يكافح دوما بالرغم من ضعفه المتمثل في الجهل والتخلف والفرقة ومحاربة القبائل بعضها البعض.. إلى أن جاء اليوم الذي تعلم فيه النخبة وعرفوا بأنهم سوف لا يحققوا أي نصر وهم متفرقون.. وكان مؤتمر غريان في نوفمبر سنة 1920م بعد فشل الجمهورية الطرابلسية بسبب الفتن التي أدت إلى الفرقة التي حدثت بين القبائل الليبية في منطقة طرابلس وجبل نفوسة.. فتوحدت كلمتهم على مبايعة السيد إدريس السنوسي لتولي القيادة الشاملة تحقيقا للوحدة الوطنية و توحيدا للجهود على طريق التحرير الشامل، وكان الشرق الليبي في برقة قد توحد تحت قيادته قبل ذلك. وكان ما كان مما ذكرناه آنفا.

   في سنة 1943م سيطرت بريطانيا على طرابلس و برقة و فرنسا على فزان.. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت أنظار الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تتجه أيضا نحو ليبيا.. فأقامت أمريكا أكبر قاعدة جوية لها في أفريقيا في منطقة الملاحة بالقرب من طرابلس وأنفقت عليها قرابة المائة مليون دولار لتطويرها لأهميتها الاستراتيجية. ولذا فقد ظهرت مقترحات خلال الحوار العالمي حول ليبيا ومستقبلها، واتفق الجميع على أن ليبيا لم تكن لديها مقومات الدولة وأن الليبيين لم يكونوا أكفاء لحكم أنفسهم بأنفسهم و اتفق الغالبية العظمى منهم على أن توضع ليبيا تحت وصاية قوتين أو ثلاثة لمدة أرع سنوات بعد الحرب. ووجد الليبيون أنفسهم يكافحون ضد هذه الأفكار والمقترحات التي ظهرت في الحوار العالمي بين الدول الكبرى.. وهذا عكس الوضع في الدول الأخرى التي كانت تكافح ضد المستعمر الحاكم. وكان الضمان الوحيد الذي أعطية لليبيين هو بيان ‘يدن في مجلس العموم البريطاني السابق ذكره ولم يطبق إلا في منع رجوع الإيطاليين إلى برقة.كان الشعب الليبي في ذلك الوقت خاليا من القيادة الإسلامية الرشيدة ومن شخصيات فعالة ، بعد استشهاد معظمهم ووجود الباقي منهم في المهجر ولم يبق إلا بعض الشخصيات السياسية الوطنية الخيرة والجمعية المحلية وبعض القيادات الدينية الضعيفة وزعماء الحركة السنوسية الذين أصبحوا يعانون من ضغوط الإنجليز عليهم. كان الشعب الليبي لا يتجاوز في تعداده أكثر من مليون بقليل، كما لم تكن هناك خبرة سياسية كافية وكان مستوى التعليم في الحضيض.. كما كانت البلاد فقيرة ولم يتجاوز دخل الفرد الخمسة عشر جنيها في السنة. انهارت البلاد في نهاية الحري نهائيا ودمرت كل المدن و المنشآت من طرق و موانئ ومطارات في برقة تدميرا كليا وزرعت المنطقة الوسطى وبرقة بالألغام.. كانت ليبيا ككل ضحية الحرب وتحتاج إلى مساعدات مالية اقتصادية واجتماعية وطبية وفنية و مدارس لتعليم الأطفال.

    حكمت بريطانيا وفرنسا ليبيا في ذلك الوقت وفق شروط اتفاقية لاهاي لسنة 1907م الخاصة بالتصرف الحربي في الأراضي التي يتم احتلالها وقت الحروب، على أساس العناية والصيانة و استمرت القوانين الإيطالية سارية المفعول ولكن جردت من العناصر الفاشستية. كما أضحت السلطات كاملة في يد القائد العام لقولت الشرق الأوسط الذي اصدر قرارا بتعيين العميد بلاكلي حاكما بطرابلس و العميد وبوكان كيمينج حاكما في برقة.

   عزلت فزان عن طرابلس وأصبحت تابعة لفرنسا التي استخدمتها مركزا هاما للدفاع عن مصالحها في أفريقيا.. أما بريطانيا فكانت طرابلس وبرقة بالنسبة لها ذواتا أهمية إستراتيجية قصوى وقامت بالسيطرة الإدارية الكاملة على المنطقة ودربت عناصر وطنية وطورتها  وأعدتها لخدمة مصالحها مستعينة في ذلك بخبرات عربية سودانية ومصرية و فلسطينية ممن يحملون الجنسية البريطانية ممن يعملون في خدمة التاج البريطاني. كما أنشأت قاعدة العدم في طبرق و القاعدة البحرية التي أصبحت ضمن سلسلة من القواعد البريطانية من جبل طارق حتى سنغافورة وممرا هاما على الطرق إلى جنوبي أفريقيا والمحيط الهندي  والشرق الأقصى.. وهناك من يقول بأن بريطانيا كانت ستهيئ برقة لكي تكون قاعتها المهمة في الشرق الأوسط إذا ما اضطرت إلى مغادرة قناة السويس عند انتهاء الاتفاقية الأنجلو-مصرية.

اعتراض الليبيين على مواقف الدول الكبرى من قضيتهم العادلة:

   لم يقف الليبيون موقف المتفرج و عبروا عنك معارضتهم ووجهوا انتقاداتهم إلى الدول الكبرى، وخصوصا إلى بريطانيا التي أخلت بعهودها لليبيين، كما قام بعض الزعماء بتبرير وقوفهم مع بريطانيا بأسلوب علمي رفيع وكتب المجاهد عمر فائق شنيب سنة 1945م وثيقة بعنوان ( ليبيا مهد البطولة)..هذه الوثيقة يجب أن يقرأها كل ليبي كان يعتقد بعدم وجود أوفياء لهذا الوطن.. الذين أخلصوا له ولم يخدعوا شعوبهم كما فعل الطغاة في آخر الزمان، وأن أبناء ليبيا البررة لم يقصروا في حقها وفي طلب الحرية والعدالة لشعبها.

   











  

















نشاط الليبيين خارج ليبيا وما تم تأسيسه من جمعياتٍ ونوادٍ:

   لم يتوقف الزعماء الليبيون في الخارج عن العمل الدءوب في سبيل الحصول على التأييد الدولي.. العربي والإسلامي في بداية الأمر.. عن طريق جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي سنة 1928م و فرعها الذي أنشأته في تونس سنة 1930م، والتي تحدثنا عنها سابقا، والنشاط الإعلامي المكثف كما ذكرنا. ثم اجتمع رأي القيادات من الزعماء والمجاهدين في مصر على تفويض الأمير محمد إدريس السنوسي ليقوم بواجبه في السعي لمصالح الليبيين والتفاوض مع بريطانيا والدخول إلى جانبها في الحرب العالمية الثانية ضد إيطاليا سنة 1938م وما تلاه من تأسيس الجيش الليبي ( القوة العربية الليبية) والتي سميت فيما بعد ( بجيش 9 أغسطس ) أو ( الجيش السنوسي ) الذي شارك في معارك الحرب العالمية ومن بينها معركة العلمين، تحت الراية السنوسية.. حيث لم يكن هناك علم خاص بليبيا في ذلك الوقت، والتي اندحرت فيها قوات المحور. كما ظهر سنة 1942م نادي عمر المختار الرياضي ( جمعية عمر المختار) الذي كان له نشاط سياسي وكلن ينادي بوحدة ليبيا .. برقة وطرابلس.. ونشط فيه الشباب في ذلك الوقت، وأصبح النادي مع مطلع سنة 1944 يصرح بانتقاداته للإدارة البريطانية و بميوله الوحدوية. كان جل المهتمين بالسياسة في ذلك الوقت من العائدين من المهجر في مصر وسوريا ولبنان وكان البعض منهم قد تأثر بالأفكار السياسية التي كانت تسيطر على الفكر العربي المستنير وبدأ البعض فعلا في تأسيس أحزاب سياسية وخاصة في طرابلس الغرب التي بدأت المظاهرات فيها ، مما دل على ظهور بعض الوعي السياسي في المنطقة. لم يكن الاتجاه الإسلامي ممثلا إلا في شخص الأمير محمد إدريس السنوسي لكونه الوريث الشرعي لقيادة الحركة السنوسية و بعض الأشخاص القلائل وشيوخ القبائل.

   رأى البريطانيون سنة 1947 أن يمنحوا برقة نوعاً من الحكم الذاتي وأوصت لجنة بريطانية ببرنامج استقلال يتم على ثلاث مراحل بإشراف بريطاني، ولكن الوضع كان مختلفاً في طرابلس حيث كبر عدد الجالية الإيطالية هناك و الخوف من عودة الحكم الإيطالي.



حل الأحزاب في برقة وإنشاء المؤتمر الوطني و وضع الأحزاب في طرابلس:

   أوقف السيد إدريس نشاط جمعية عمر المختار في ديسمبر سنة 1947م و أسس المؤتمر الوطني بحجة التحدث باسم أهالي برقة جميعا، غير أن المؤتمر كان يتألف في معظمه من رجال الجيل القديم من القادة الموالين له، وترأس المؤتمر أخوه محمد الرضا. وفي طرابلس فكانت هناك عشرة أحزاب وجماعات ونوادٍ لها أهداف تختلف بعضها عن بعض ولو أنها كانت في عمومها تسعى لتحقيق الاستقلال وتوحيد طرابلس و برقة و فزان. وكان الاختلاف يتركز على القيادة المحتملة للبلاد وهل سيكون النظام ملكي أم جمهوري.. ومن هذه الأحزاب والتكتلات الحزب الوطني بقيادة أحمد الفقيه حسن ولجنة تحرير ليبيا المتعاونة مع الجامعة العربية برئاسة بشير السعداوي. وكان يعيش في ليبيا في ذلك الوقت قرابة ثمانية وأربعون ألف إيطالي ظهر من بينهم حزب فاشستي يتمتع بالدعم من روما وحزب آخر معارض له.

   وفي خضم هذا الاضطراب والبلبلة قامت الدول الكبرى بإرسال لجنة لتقصي الحقائق وتشخيص الوضع في البلاد، و اكتشفت هذه اللجنة رغبة الشعب العارمة في الاستقلال التام ورفعت تقريرا بهذا المعنى، ولكن جاء في التقرير أيضا بأن ليبيا لم تكن مؤهلة للاستقلال وفي وضع اقتصادي لا بمكنها من الاعتماد على نفسها، وأضافت بأن حوالي 94% من السكان أميون ولا يزيد عدد المتخرجين الليبيين فيها عن 15 ، ليس فيهم طبيباً واحداً، كما أن متوسط دخل الفرد السنوي لا يزيد عن 15 جنيها ، وأن نسبة الوفيات بين الأطفال كانت 40%. واقترحت بريطانيا أن تضل برقة تحت رعايتها وأن تكون منطقة طرابلس تحت الوصاية الإيطالية و فزان تحت الوصاية الفرنسية. ورأت الولايات المتحدة الأمريكية أن توضع ليبيا كلها تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات وتحتفظ أمريكا بقاعدة الملاحة ( هويلس ) وجميع التسهيلات الحربية ، و وافقت  بريطانيا على ذلك غير أن فرنسا رفضته. أما بالنسبة للاتحاد السوفيتي فقد استحسن في البداية الرأي الأمريكي غير أنه غير رأيه  بالنظر إلى مصالحه الخاصة في المنطقة.

   كانت ليبيا في وضع سيء للغاية وفي أطماع الدول الاستعمارية التي كانت تسعى إلى حلول تتمشى مع مصالحها. عندما أنظر إلى الموضوع بتمعن أسأل نفسي: ماذا كانت ستفعل تلك الدول المتحالفة ضد النازية لو أن لديها علم الغيب لتعرف أن ليبيا كانت تعوم على  بحر من النفط .. أعتقد بأن حربا كانت ستشتعل بينها للسيطرة التامة.

   لم تكن ليبيا في وضع يسمح لها بالوقوف بحزم ضد الدول الكبرى الفائزة لتوها بالحرب ضد قوات المحور، و مع ذلك، ومع نمو الوعي السياسي والحس الوطني.. الذي لم يكن معدوما.. قامت مظاهرات كبيرة لم تدع مكانا للشك في  الشعور العام برفضها تلك الخطط والاقتراحات.

اجتاحت المظاهرات الضخمة ، التي قدر عدد المشاركين فيها بحوالي الستين ألف متظاهر، شوارع طرابلس رافضين الوصاية الإيطالية على طرابلس كما اشترك في المظاهرات متظاهرون قدموا من المدن الأخرى . كان لتلك المظاهرات صدىً  كبيراً في الأوساط الإعلامية الدولية وكسبت الرأي العام العالمي والعربي إلى صف الشعب الليبي. واتحد الحزب الوطني والجبهة الوطنية المتعددة وغيرهما من الأحزاب والتنظيمات في حزب المؤتمر الطرابلسي تحت قيادة بشير السعداوي. و استمر حزب المؤتمر في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات حتى رفضت نهائيا الخطة التي كانت تعرف بمشروع ( بيفن- سيفوروزا ) من قبل الأمم المتحدة، وكان هذا هو السبب في بروز الحزب كقوة سياسية فاعلة في منطقة طرابلس.

   عندما كانت الجمعية العمومية للأمم المتحدة تناقش مشروع بيفن –سيفوروزا في 18 مايو سنة 1949م كانت كل الدلائل تشير إلى نجاحه بأغلبية الثلثين في منح ليبيا الاستقلال، غير أن مندوب هاييتي ( إميل لوت ) عارض الوصاية الإيطالية على منطقة طرابلس وكانت النتيجة أن فشلت الخطة عند الاقتراع عليها بسبب نقص صوت واحد كان مطلوبا لتأمين الأغلبية التي أعطت أصواتها لإقرار الخطة ( 33 مقابل 17 وغياب 8 ) وكان الذي أقنع إميل لوت بالوقوف مع الشعب الليبي الدكتور على العنيزي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته وجزاه خيرا عن جميع أفراد الشعب الليبي..  هذا هو السبب الذي جعل ليبيا بعد نيل الاستقلال تطلق اسم هاييتي على أحد الشوارع الرئيسية في طرابلس.

   لم تقصر الوفود العربية واستطاعت إقناع الاتحاد السوفييتي وبعض الوفود الأخرى لمعارضة الخطة والوقوف مع مصلحة الشعب الليبي في الاستقلال.. وانضمت كتلة أمريكا اللاتينية إلى المجموعة الرافضة واقترعت ضدها مما تسبب في هزيمة الخطة بأغلبية ( 37 صوتا ضد 14 صوتا وغياب7 أصوات ).

   ونادى الاتحاد السوفيتي باستقلال ليبيا في غضون ثلاثة أشهر، بعد أن كان يطمع في الوصاية على منطقة طرابلس ومن ثم إرجاعها للإيطاليين. ورأت بريطانيا عند ذلك أن مصلحتها تكمن في استقلال ليبيا ، خاصة إذا أمكنها الاحتفاظ بقواعدها العسكرية في منطقتي طرابلس وطبرق.

   بعد وفض خطة ( بيفن –سيفوروزا ) أعلن إدريس السنوسي استقلال برقة وتم تنصيبه أميرا عليها وتسلمت الحكومة المحلية الشؤون الداخلية، أما الشؤون القضائية و المالية فبقيت تحت مسؤولية المستشارين البريطانيين، وبقيت الشؤون الخارجية والدفاع والأملاك الإيطالية تحت السيطرة البريطانية. أما بالنسبة لاستقلال ليبيا فقد أصبح ضروريا بالنسبة للأمم المتحدة، ولذا أعيدت القضية الليبية إلى اللجنة السياسية في صيف سنة 1949م وسمح لإيطاليا بالاشتراك في النقاش. كما سمح لممثلين عن المؤتمر الوطني البرقاوي وحزب المؤتمر الوطني الطرابلسي وممثلين عن الجالية اليهودية بطرابلس بالحضور والمناقشة. وبدأت لجنة فرعية في وضع قراراً يتضمن جميع المقترحات التي تقدمت بها وفود كل من الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تم التصويت على القرار و تمت الموافقة عليه بأغلبية ساحقة في اللجنة السياسية في 12 نوفمبر سنة 1949م وقدم بعد أسبوع للموافقة علية من قبل الجمعية العمومية.

  إعلان الاستقلال وتأسيس المملكة الليبية المتحدة:

         وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار اللجنة السياسية المقدم من كل من الولايات المتحدة الأمريكية والهند وباكستان والعراق بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1949م و تبنته بأغلبية 48 صوتا ضد صوت واحد ( الحبشة ) وغياب تسعة دول منها فرنسا وخمس دول شيوعية.

نص القرار:

1 – أن تصبح ليبيا المكونة من مناطق برقة وطرابلس و فزان دولة مستقلة ذات سيادة.

2 – أن يصبح هذا الاستقلال ساري المفعول في أسرع وقت ممكن وألا يتأخر لأي حال من الأحوال عن أول يناير سنة 1952م.

3 – أن يقرر دستور ليبيا ، ينضم شكل الحكومة من قبل ممثلين عن سكان مناطق برقة وطرابلس و فزان يجتمعون ويتشاورون معا في جمعية وطنية.

4 – ومن أجل مساعدة شعب ليبيا على وضع دستور و إقامة حكومة مستقلة يرسل مندوب من الأمم المتحدة إلى ليبيا تعينه الجمعية العامة ومعه مجلس لمساعدته ونصيحته.

5 – أن يقدم مندوب الأمم المتحدة، بالمشاورة مع المجلس، تقريرا سنويا مع التقارير التي يعتبرها ضرورية، ويضاف إلى هذه التقارير مذكرة أو وثائق يرغب مندوب الأمم المتحدة أو أي عضو في المجلس أن يضعها أمام انتباه الأمم المتحدة.

6 – أن يتكون المجلس من عشرة أعضاء، وبالتحديد:

أ – ممثل ترشحه حكومة كل من البلدان التالية: مصر وفرنسا وإيطاليا وباكستان و المملكة المتحدة و الولايات المتحدة.

ب – ممثل عن شعب كل من المناطق الثلاثة في ليبيا وممثل عن الأقليات.

7 – أن يعين مندوب الأمم المتحدة الممثلين المذكورين في الفقرة  6-ب بعد التشاور مع القوى الإدارية و مع ممثلي الحكومات المذكورين في الفقرة  6-أ و مع الشخصيات القيادية وممثلي الأحزاب السياسية و المنظمات في المناطق المعينة.

8 – وإنجازاً لمهامه، يشاور مندوب الأمم المتحدة ويسترشد بمشورة أعضاء مجلسه، ويجب أن يكون معلوماً أن بإمكانه أن يقابل أشخاصاً مختلفين لسماع النصيحة بخصوص المناطق المختلفة أو المواضع المختلفة.

9 – يمكن لمندوب الأمم المتحدة أن يقدم المقترحات إلى الجمعية العامة وإلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي وإلى السكرتير العام فيما يخص الإجراءات التي يمكن أن تتبناها الأمم المتحدة خلال الفترة الانتقالية بخصوص المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية في ليبيا.

10 – أن تقوم القوى الإدارية بالتعاون مع مندوب الأمم المتحدة:

أ  -  باتخاذ جميع الخطوات اللازمة حالا لنقل السلطة إلى حكومة دستورية مستقلة.

ب – إدارة المناطق بهدف مساعدة أقسام الوحدة الليبية والاستقلال والتعاون في تكوين الإدارات الحكومية وتنسيق نشاطاتها من أجل هذه الغاية.

ج – تقديم تقرير سنوي للجمعية العامة حول الخطوات المتخذة لتطبيق هذه التوصيات.

11 – أن تدخل ليبيا الأمم المتحدة حسب المادة ( 4 ) من الميثاق، بعد أن تصبح دولة مستقلة.

   وبعد أسبوعين قامت الجمعية العامة بتعيين مساعد السكرتير العام ( أدريان بيلت ) مندوبا للأمم المتحدة في ليبيا.

   وصل أدريان بلت إلى ليبيا يوم 18 يناير سنة 1950م في مهمة استطلاع ولخص مهمته في أنه هناك لمساعدة الشعب الليبي على وضع دستوره وإقامة حكومته المستقلة. وتم تكوين المجلس المنصوص عليه في قرار الأمم المتحدة من الأعضاء المرشحين من قبل الدول المذكورة أعلاه ومرشحين عن مناطق ليبيا الثلاث وممثلا عن الجاليات الإيطالية واليهودية و اليونانية بمنطقة طرابلس، فقدمت فزان مرشحاً واحدا وقدمت برقة ثمانية وطرابلس سبعة والجاليات أربعة مرشحين.. ثم تم تعيين أسد الجربي ممثلا لبرقه ومصطفى ميزران ممثلا لطرابلس وأحمد الحاج السنوسي ممثلا لفزان وجياكومو مارشينو الإيطالي عن الأقليات. ثم أنشأ مجلس ليبيا ( المعروف بمجلس العشرة ) في 15 أبريل وكان يضم ثلاثة ليبيين وممثلين عن دولتين أسلاميتين مستقلتين ( مصر وباكستان ) وإيطاليين ( واحد يمثل إيطاليا والآخر للأقليات الأجنبية) وثلاثة يمثلون ثلاث قوى غربية ( بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ).. وهذا يعتبر تحيزا للغرب بنسبة 7 من الغرب إلى 3 من الليبيين ,, وإذا اعتبرنا أن الثلاث مناطق الليبية خاضعة للقوى الأجنبية ومصر وباكستان خاضعتين لبريطانيا , فإن النسبة في التمثيل تكون غير عادلة البتة، وفي صالح الدول الاستعمارية. واحتج الليبيون احتجاجا شديدا على هذا التمثيل ورفضوا أن يشترك الإيطاليون والأقليات في تقرير مصير الشعب الليبي المسلم، وكان هناك تخوف واضح من تدخل الإدارة البريطانية في الانتخابات.. وكانت النتيجة أن ألغيت خطة أدريان بلت. ولكن بلت لم ييأس واستطاع استدراج العديد من الشخصيات الدينية والوطنية وشكل جمعية وطنية من طرابلس و فزان وتم إخماد الأصوات المعارضة. وأعطيت الجمعية الصلاحيات اللازمة لوضع الهيكل التنظيمي والدستوري للبلاد واختيار لجنة خاصة لوضع الدستور. ثم عقدت اللجنة أول اجتماع لها في 25 يناير سنة 1950م وانتخب مفتي طرابلس رئيسا لها ثم اتفقت اللجنة على أن تكون ليبيا دولة ديمقراطية ملكية دستورية فدرالية ذات سيادة.. وكانت هناك معارضة شديدة لقرارات الجمعية الوطنية وظهر بشير السعداوي في مقدمة المعارضين وكان من المتحمسين للوحدة.. وسانده معظم الوطنيون في تطلعاته نحو وحدة البلاد وقاد حملات ضد الجمعية الوطنية، التي اعتبر قراراتها غير قانونية و أنها خالفت رغبات الشعب الليبي و قرارات اللجنة السياسية بالأمم المتحدة وأنها لم تكن منتخبة من الشعب وليس لها أن تبث في أمور تؤثر على مستقبل البلاد. واستمر هذا الاحتجاج طيلة النصف الأول من سنة 1950م. غير أن أدريان بلت أرسل مفتي طرابلس إلى مصر لكسب عطف الجامعة العربية.. وتم له ذلك.

   أقرت الجمعية الوطنية في 4 ديسمبر 1950 العلم الليبي وانتخبت لجنة الدستور على أساس ستة أعضاء عن كل منطقة لتحضير مسودة الدستور. قامت اللجنة بدورها بتشكيل مجموعة عمل لهذا الغرض و تمت دراسة أحد عشر دستورا لمختلف الدول، منها الهند و سويسرا و مصر  والعراق والأردن ولبنان وغيرها... ولكن غيبت عن الليبيين قواعد النظام الأساسي في الإسلام.

   كان الضغط على ليبيا عظيما ولذا لم يستطع السيد إدريس السنوسي و القوى الوطنية المسلمة التدخل بحيث يكون الإسلام هو المصدر الرئيسي و الوحيد للتشريع في البلاد.

   تم أنجاز الدستور في مدة عشرة أشهر فقط  بعد دراسة وافية ومناقشات عدة وكان هناك اختلاف في بعض النقاط.. مثل العاصمة.. حيث أراد البرقاويون أن تكون بنغازي هي العاصمة في حين أصر الطرابلسيون على مدينة طرابلس .. وتقرر في نهاية الأمر على أن تكون طرابلس وبنغازي عاصمتين مشتركتين لليبيا. وأطلق على ليبيا اسم المملكة الليبية المتحدة و سميت المناطق بالولايات بدلا من دول.. ووضعت السلطة التشريعية في يد الملك و مجلس الشيوخ والبرلمان على أن يتكون مجلس الشيوخ من 24 عضوا، على أساس ثمانية من كل ولاية، نصفهم يعينه الملك والنصف الآخر منتخب ، أما نواب البرلمان فيتم انتخابهم من الذكور بمعدل واحد عن كل عشرين ألف نسمة من السكان.. ويتم اختيار أعضاء الوزارة من البرلمان الاتحادي ويعين الملك رئيس الوزراء ووالي كل ولاية.

   قسمت لجنة بلت نقل السلطات من الإدارات البريطانية والفرنسية إلى الاتحاد الليبي على أربع مراحل وأصدرت الجمعية العمومية قرارا في فبراير 1951م  بتشكيل حكومات محلية لاستلام السلطات الإدارية ، وفي 3 مارس أصدرت الإدارة البريطانية، بموافقة إدريس، بيانا بتأليف حكومة محلية في طرابلس ولم يكن حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي راض عن سير الأمور بتحكم بريطانيا في إجراءات نقل الوضع إلى السلطات المحلية.

   خاطب أدريان بلت الأمم المتحدة قائلا بأن ليبيا ستعاني انهياراً اقتصادياً كبيراً وتتحول إلى اقتصاد رعوي ما لم تقم الأمم المتحدة بمساعدتها لتحسين الزراعة وخلق رأسمال استثماري جديد فيها.. وإلا فستتعرض الدولة الجديدة للانهيار. وفعلا قدمت الأمم المتحدة مساعدات للدولة الجديدة  وقدمت اليونسكو و منظمة الصحة العالمية مساعدات محدودة. واستطاعت الأمم المتحدة أن تجد طريقة لتحصل ليبيا على الوسائل الإدارية والاقتصادية لدعم استقلالها ( الذي يعتبر غير كامل ).

كما تعهدت بريطانيا بتغطية العجز في الميزانية للسنة المالية 52-1953م لولايتي طرابلس وبرقة وكذلك فرنسا لفزان,, وأعطيت الأولوية للتعليم.

   في 24 ديسمبر سنة 1951م  تم إعلان استقلال ليبيا أسبوع قبل الموعد الذي حددته الأمم المتحدة وأصبح الدستور معدا للتنفيذ  واستلمت الحكومة المؤقتة السلطات والصلاحيات كاملة. وتولى رئاسة أول حكومة السيد محمود المنتصر، وتولى السيد فتحي الكيخيا منصب نائب الرئيس ووزير العدل والمعارف. و عين السيد عمر فائق شنيب رئيسا للديوان الملكي وتم نعيين الولاة الثلاث وتقدمت ليبيا بطلب الانضمام لعضوية الأمم المتحدة.

    فيما يلي صور من قوائم أعضاء اللجنة التحضيرية المختصة بالإعداد للجمعية الوطنية.. و الجمعية الوطنية التأسيسية ( لجنة الستين ) وصورة من خطاب مبايعة الجمعية الوطنية التأسيسية الأمير محمد إدريس السنوسي ملكا دستوريا للملكة الليبية المتحدة سنة 1950م، وصورة من خطاب الملك إدريس السنوسي لإعلان الاستقلال يوم 24 ديسمبر سنة 1951م.

   كان هذا مختصراً لتاريخ ليبيا جمعته من عدة مصادر، و الآن حان الوقت .. وبعد التعرف على ما فات .. لكي ننظر إلى ما يمكن عمله لتحسين الوضع المزري في البلاد. يحب علينا أن ندرس الأسباب التي باعدتنا عن المصلحة الوطنية العامة وأصبح كل واحد منا يغني على ليلاه.. الوطن ملك الجميع وليس لفرد أو قبيلة أو منظمة.. وحكم ليبيا يجب أن يكون من قبل مؤسسة ديمقراطية يساندها ويختارها الجميع بغض النظر عن الانتماء القبلي أو الجهوي، وبدون النظرة إلى المصالح الشخصية. هنا سنجد أنفسنا نختلف كليا عن آبائنا وأجدادنا الذين جاهدوا حق الجهاد ولم يطلب أيا منهم التعويضات الخيالية والمناصب والثروة.. لقد تعرفنا على الأبطال الوطنيين الذين وقفوا ضد القوى الكبرى التي كانت تطمع في بلادنا ولم يعطوها الفرصة لتطبق على الشعب الليبي والبلاد. لم يكونوا يتبعون أي جهة أجنبية ولم يخدموا  أية أجندات خارجية . إيمانهم بأوطانهم ورجالهم مكنهم من المضي قدما ، بالرغم من وجود العراقيل.. والكثير منها .. ولكنهم جمعوا كلمتهم على جهة واحدة وشخص واحد .. الملك إدريس السنوسي.. مع العلم بأنه كان هناك من يخالفه.. ولكنهم تناسوا ذلك في وقت كانت البلاد في أمس الحاجة لقيادة موحدة مسلمة يلتف حولها الناس للخروج من المآزق، وليس المأزق الواحد.. نحن بحاجة إلى مثل هذه القيادة المسلمة الحكيمة التي يلتف حولها جميع إفراد الشعب وجميع  القبائل.. ما دامت بلادنا تحكمها القبائل والعرف منذ آلاف السنين .. ولم تنجح الجامعات و التعليم في قتل النزعة القبلية والتفكير الجهوي المحدود،و التي قد تكون معوقة لتقدم البلاد نتيجة الجهل عند كثير من الناس. سأترككم الآن مع هذه الأفكار لكي نناقشها معا في لقاءاتنا القادمة .. لكي نري من هو ذلك الشخص الذي قد يوحد الأمة .. ولو لفترة زمنية محدودة بالسنوات وليس بعشرات السنين.. ترضية للبعض. أما أن نترك بلادنا فريسة للمجرمين الخونة أعداء الوطن وأعداء أنفسهم ليعيثوا في الأرض فسادا، فهذا لن تغفره لنا الأجيال القادمة.  ها نحن نبجل الأجيال القديمة التى مهدت لنا الطريق إلى الاستقلال ثم مرحلة بناء الدولة التى عرقلها انقلاب عسكري متآمر في خدمة الغرب تحت ستار كاذب من الوطنية والقومية والحرية والعدالة .. فماذا ستكتب عنا الأجيال القادمة يا تري ؟.. هذا هو ما يجب أن نعمل عليه الآن. فكروا معي ولنا لقاء قادم إن شاء الله.                               

   التاريخ يبين لنا بكل وضوح أن الشعب الليبي كان دائما ضحية الاستعمار الأجنبي من جهة، وضحية التوجهات القبلية والنظرة الضيقة للمجتمع من ناحية أخرى. لم تنعم ليبيا بالاستقلال عن الدول الأخرى في أي فترة من فترات التاريخ.. حتى في العهد الملكي كان فقر الدولة المدقع سببا في إذلالها بقبول القواعد الأجنبية على أراضيها. بعد تداول الاحتلال من الفينيقيين إلى فرسان القديس يوحنا، الذين طردوا من ليبيا على يد سنان باشا و درغوت باشا، المرسلين في حملة عسكرية من قبل السلطان العثماني سنة 1551م، جاء الإيطاليون طالبين حصتهم في أفريقيا باحتلال ليبيا والحبشة والصومال. و نلخص الأحداث التي ذكرناها فيما سبق كما يلي:

ــ  بدأ تفتت الدولة العثمانية بعد أن خسرت الحرب ضد روسيا سنة 1878م.. وسقطت الجزائر وتونس في أيدي الفرنسيين سنة 1881م ثم مصر في أيدي الإنجليز سنة 1882م.

 ــ أعلنت حكومة إيطاليا بأن ليبيا هي منطقة توسع لها، بعد أن أخذت موافقة الدول الأوربية  الكبرى آنذاك، منتهزة فرصة تخصيص الدولة العثمانية ليبيا منطقة امتياز لأجل استثمار رؤوس الأموال الأجنبية، حيث كانت ليبيا تعاني من الجفاف و الفقر مما أثقل كاهل الدولة العثمانية التي كانت ترسل المساعدات تباعا لإنقاذ السكان من المجاعة. وقد نبه السيد عمر منصور الكيخيا النائب الليبي عن منطقة بنغزي في البرلمان العثماني في الآستانة في أبريل سنة 1911م في خطاب له بأن الوضع خطير وأن الإنجليز والفرنسيين يسعون إلى السيطرة على الجنوب الليبي والمناطق الشرقية.. فقام الباب العلي باجتذاب السنوسية إلى جانبه ورفع العلم العثماني على الكفرة. كما شرح عمر منصور الكيخيا دور السنوسية في نشر الإسلام في المنطقة .. وتراجعت فرنسا وبريطانيا عن خططهما.

ــ  أنشأت إيطاليا لها مصالح في المنطقة ..و منها بنك روما ومدارس إيطالية وزاد عدد أفراد الجالية الإيطالية في منطقة طرابلس، وسارعت في مكافحة مرض الكوليرا الذي تفشي في المنطقة قبل حكومة الدولة العثمانية مما جعلها تكسب ثقة المواطنين وبالذات اليهود. ونبه كل من النواب الليبيون السادة الصادق بالحاج  ومحمود الناجي ( عن طرابلس الغرب ) في البرلمان التركي على أن ذلك يشكل خطرا كبيرا وطالبوا الباب العالي باتخاذ إجراءات مناسبة.

ــ في 27 سبتمبر1911م وجهت إيطاليا إنذارا إلى الدولة العثمانية تجعلها مسؤولة عن إهمال ليبيا واتهمتها بأنها تحرض الليبيين على الإيطاليين و تضطهدهم.   

ــ في 28 سبتمبر 1911م اقبل الموعد المحدد لانتهاء الإنذار وكانت السفن الحربية في ميناء طرابلس.

ــ في 29 سبتمبر 1911م أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا.

ــ  3 أكتوبر 1911م بدء قصف طرابلس وتم احتلال طرابلس بقوة قوامها 39 أف جندي بعد مقاومة من الأهالي والأتراك البالغ عددهم ثلاثة آلاف جندي.

 ــ تنازلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا بالتوقيع على معاهدة أوشي التي أبرمت بين البلدين في 15 أكتوبر سنة 1912م.. وبالمقابل تعهدت إيطاليا بعدم محاربة تركيا.

ــ في 17 أكتوبر أعلن ملك إيطاليا فيكتور عمانويل خضوع طرابلس وبرقة خضوعا تاما للسيادة الإيطالية.

ــ بعد تولي موسوليني الحكم في إيطاليا أعلن أن ليبيا جزء من إيطاليا وعمل كل ما يستطيع للقضاء على الإسلام وقتل مئات الألوف من المواطنين وزج  بعشرات الآلاف من قبائل الجبل الأخضر في المعتقلات ونفوا المئات منهم إلي سجون في إيطاليا و أرسل آلاف الصغار قهرا إلى  إيطاليا لتنصيرهم.

ــ لم يتوقف جهاد الليبيين ضد الغزاة منذ اليوم الأول حيث حاربوا مع الحاميات التركية رغم قلة عددهم وضعف تسليحهم.

ــ تحرك نواب البلاد وزعماؤها في طرابلس و فزان و برقة نحو معسكرات الجهاد ،ومن بينهم سليمان الباروني وأحمد سيف النصر وأحمد الشريف وأحمد المريض ورمضان السويحلي وعبد النبي بالخير. ثم برز بعد ذلك عمر المختار ويوسف بورحيل و الفضيل بوعمر والكزه عبد الحميد العبار .. وغيرهم من قادة الجهاد الكبار وآلاف مؤلفة من المجاهدين الأفاضل.

ــ في 16 أبريل سنة 1916م رجع سليمان الباروني إلى ليبيا ووصل على مصراتة على متن غواصة ألمانية قادما من تركيا و بدأ في تنظيم المجاهدين لمواجهة تحركات الجنود الإيطاليين. كما قام بالاتصال بقادة الجهاد في المنطقة الغربية لتوحيد الصفوف وشجعت الحكومة التركية فكرة إنشاء الجمهورية الطرابلسية وعقد اجتماع ضم جميع زعماء الجهاد في المنطقة الغربية وأعلنت الجمهورية الطرابلسية.

ــ وافقت إيطاليا وعقدت هدنة مع الزعماء، ولكنها انتهزت فترة الهدنة و قامت منذ البداية في التملص من التزاماتها تجاه هيئة الإصلاح المركزي وعملت على إثارة الفتنة والانقسام في صفوف الزعماء، وسعت إلى استمالة بعض الفئات وتأليبها ضد الفئات الأخرى. لقد خسرت إيطاليا في البداية  عسكريا أمام المقاومة، وخاصة بعد معركة القرضابية ، ولكنها نجحت في سياسة الدهاء والمكر التي أدت إلى الوقيعة والحرب بين البربر ( الأمازيغ ) و الزنتان وبين مصراتة و ورفلله، و بين مصراتة و ترهونة وبين مجموعات من قبائل جبل نفوسة  بين البدو والحضر. ولقد كانت الحرب الطاحنة بين الزنتان و الأمازيغ سنة 1916م ثم بعد ذلك سنة 1920/21م نتيجة لتلك  السياسة.. وفشلت الجمهورية الطرابلسية.

ــ عقد مؤتمر غريان في نوفمبر سنة 1920م وقرروا بأن ليبيا تحتاج إلى قيادة أسلامية بزعامة مسلم ينتخب من الأمة وتكون لديه جميع السلطات بموجب دستور تقره الأمة بواسطة نوابها. عقد بعد ذلك اجتماع في سرت بتاريخ 21 يناير سنة 1922م بين زعماء طرابلس وبرقة واتفقوا على إنهاء فترة الفتور التي دامت 5 سنوات بينهم، وعلى توحيد الجهود ضد الإيطاليين وتوحيد الزعامة على البلاد والعمل على انتخاب أمير مسلم لهذه القيادة حسب ما جاء أعلاه، ثم انتخاب مجلس تأسيسي لوضع القانون الأساسي والنظم اللازمة لإدارة البلاد.

ــ بعد فشل الطرابلسيين في تحقيق أية نتائج إيجابية مع الطليان قرروا مبايعة السيد محمد إدريس السنوسي أميرا على البلاد تنفيذا لقرارات هيئة الإصلاح المركزية في فندق الشريف.

ــ كان المجاهدون في برقة يحاربون العدو الإيطالي منذ بداية الاحتلال بلا هوادة تحت قيادة الحركة السنوسية بزعامة السيد أحمد الشريف وتكبدهم الخسائر الجسيمة في الأموال و الأرواح. ولم تكن هناك المشاكل التي كانت بين القبائل في غرب ليبيا نتيجة توحد القبائل تحت راية السنوسية بزعامة أحمد الشريف و بعد ذلك محمد إدريس السنوسي.

ــ خسر أحمد الشريف الحرب إلى جانب الألمان والأتراك ضد بريطانيا سنة 1915م و أدي  الجفاف الذي أصاب البلاد لسنوات إلى انتشار المجاعة والفقر والأوبئة والأمراض كل ذلك مع غزو الجراد البلاد.. ووجد أحمد الشريف نفسه مضطرا إلى تسليم القيادة لوريثها الشرعي إدريس السنوسي في تلك الظروف القاسية.

ــ 1916م بدأت ثورة الأتراك ضد السنوسية.

ــ اضطر محمد إدريس للدخول في مفاوضات من الإنجليز الذين اشترطوا عليه التوصل إلى اتفاق مع حلفائهم الطليان أثناء المفاوضات. فكانت مفاوضات في الزويتينة بالقرب من اجدابيا أواخر سنة 1916م ثم في عكرمة بالقرب من طبرق في أوائل سنة 1917م  ثم عقد اتفاقية الرجمة في أكتوبر سنة 1920م.

ــ هاجر الأمير إدريس و إلى مصر وبشير السعداوي إلى سوريا ,, كذلك آخرون مثل أحمد المريض وعبد الحميد العبار و كثير من الزعماء، بعد اجتياح الإيطاليين المدن الليبية مثل مصراته ومدن جبل نفوسة و فزان و اجدابيا. وبقي عمر المختار ومقاتليه الوحيدون على ساحة القتال حتى سنة 1933 بعد أن تم القضاء على المقاومة نهائيا بالقبض على عمر المختار.

ــ استمر نضال الليبيين في المهجر بدون انقطاع في مصر وسوريا وتونس.

ــ كان لدخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية الأثر الإيجابي الذي جعل الأمير إدريس ينتهز الفرصة للاتفاق مع بريطانيا لخوض الحرب إلى جوارها لطرد الطليان من ليبيا.

ــ اجتمع الزعماء والقادة الليبيون في المهجر بمصر يوم 20 أكتوبر سنة 1939م تحت قيادة الأمير إدريس الذي تم تفويضه للدخول في مفاوضات مع بريطانيا لغرض الاشتراك في الحرب وتم أنشاء القوة العربية الليبية ( الجيش السنوسي ) في أغسطس سنة 1940م ، كما وافقت جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي بزعامة بشير السعداوي على ذلك التفويض.

ــ دخل الجيش السنوسي الحرب إلى جانب بريطانيا واشترك في معارك كثيرة. بعد انتهاء الحرب أخلت بريطانيا بعهودها واعترفت فقط بإمارة برقة و محمد إدريس أميرا عليها وأبدت النية في الاحتفاظ ببرقة وطرابلس تحت إدارتها وسيطرتها، كما سيطرت فرنسا على فزان.

ــ لم يتوقف الليبيون عن المطالبة بالاستقلال التام وسعوا إلى ذلك لدي منظمة الأمم المتحدة وقاوموا  بلا هوادة كل المحاولات التي كانت ترمي إلى وضع ليبيا تحت الوصاية الدولية ورجوع طرابلس تحت الوصاية الإيطالية.

ــ نجح الليبيون في إقناع الأمم المتحدة للتصويت على منحها الاستقلال التام والتي ساعدت عن طريق مندوب عينته لها في ليبيا على تشكيل الجمعية الوطنية التي عملت على إخراج الدستور إلى حيز الوجود.

ــ قامت الجمعية الوطنية التأسيسية بمبايعة الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي ملكا دستوريا للمملكة الليبية المتحدة بتاريخ 2 ديسمبر 1950م.

ــ ألقي الملك إدريس الأول خطابا بتاريخ 24 ديسمبر 1950 أعلن فيه استقلال ليبيا التام.

إخوتي .. أخواتي .. حاولت أن أختصر الأحداث بقدر الإمكان دون الخروج عن التسلسل لكي نستطيع مقارنة الماضي بالحاضر .. و يا له من تشابه.    



       عند إعلان استقلال ليبيا في يوم 24 ديسمبر 1951م كانت ليبيا دولة وليدة ليس لها من مقومات الدولة شيء يذكر. كانت مفلسة ماديا وتعاني القحط والجفاف ولكن لم تكن مفلسة فيما يخص الرجال. كان هناك رجال بكل معنى الكلمة .. مؤمنين بالله، وطنيين مخلصين للوطن وللرجل الذي اختاروه ملكا موحدا للبلاد، وجلهم من الذين كافحوا الاستعمار الإيطالي بالمال والسلاح والنفس. كان هدفهم تحرير البلاد من الاستعمار الإيطالي في البداية، ثم الاستقلال التام من سيطرة الإنجليز والفرنسيين في النهاية. وبعد تحقيق ذلك كانت مهمتهم بناء دولة من لا شيء. لم تكن ليبيا دولة في يوم من الأيام، بل مستعمرة فينيقية أو إغريقية أو رمانية أو ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية. في 24 ديسمبر 1951م أعلن ميلاد دولة لم تكن موجودة.. كانت القوة العسكرية البريطانية تسيطر على الجيش والبوليس في برقة وطرابلس و وتسيطر القوات الفرنسية في فزان. استلمت الحكومة المؤقتة برئاسة المرحوم محمود المنتصر إدارات البلاد رويدا رويدا من الإدارة البريطانية مع الاحتفاظ بمستشارين انجليز تقريبا في كل وزارة وإدارة للمساعدة في تسيير دفة المركب الجديد. لم يكن للبلاد جيش ولا شرطة ولا رجال يحافظون على الأمن .. كل شيء في أيدي الأجانب. ومع ذلك تحقق كل شيء بالتدريج وتحت عيون الأمم المتحدة، وتم بناء الجيش والشرطة وأنشأت كلية عسكرية لتخريج الضباط في الزاوية  وواجهت صعوبات عندما وضعت شروط حصول الطلبة على الشهادة الإعدادية .. ولم يكونوا كثيرين بسبب السياسة التعليمية الإيطالية التي حرمت الليبيين من التعليم المتقدم. ومن أهم المشاكل التي واجهت الدولة الجديدة مشكلة تغطية ميزانية البناء و التنمية. كانت الخزينة خاوية. وأرسل السيد على الجربي إلى مصر و قابل محمود فوزي وزير الخارجية ومحمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر نائب الرئيس آنذاك وقائد ثورة 23 يوليو الفعلي لطلب سلفه بمقدار مليوني جنيه واعتذرت مصر لعدم قدرتها  على ذلك و سافر الوفد إلى العراق واعتذرت العراق أيضا. كانت الحكومة قد قررت الدخول في حلف عسكري مع بريطانيا للحصول على دعم مالي، ولتبديد احتمالات تدخل إيطاليا في الشؤون الليبية، فدخلت ليبيا مجبرة في مفاوضات مع البريطانيين وبعدها مع الأمريكيين لعقد اتفاق على تأجير القواعد العسكرية التي كنت تحت أيديهم على أية حال. وبعد مناقشات توصلوا إلى اتفاق مالي تحت شروط معينة يمكن الرجوع إليها في بعض المراجع المذكورة نهاية هذه المقالة. وكان الاتفاق يشمل دعما ماليا في حدود ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمس وسبعون ألف جنيها إسترليني يخصص منها مليون جنيه للتنمية والباقي لدعم الميزانية. غير أن المفاوضات مع أمريكا كانت أصعب، ولم يرد الأمريكيون منح أية مبالغ مالية على أساس أنها تساعد عن طريق النقطة الرابعة المنبثقة عن مشروع مارشال لبناء أوربا، كما كان من وجهة نظرهم أن القاعدة الأمريكية في الملاحة بطرابلس كانت لحماية العالم الحر.. بما فيها ليبيا، وأعلنت عن طريق وزيرها المفوض في ليبيا آنذاك أن أمريكا ترفض رفضا قاطعا فتح الباب لمسألة دفع إيجارات عن قواعدها المنتشرة في أنحاء العالم خاصة وأن الجانب الليبي كان متمسكا بالمطالبة بمبلغ لا يقل عن خمسة وعشرين مليون دولار. وبعد جهود مضنية وافق الأمريكيون على دفع مليوني دولار فقط كمساعدات سنوية.

   كان المخلصون من أبناء الوطن في الحكومة يعملون حثيثا للحصول على تغطية مالية تمكنهم من البدء في بناء الدولة. وإذا ما قورنت تلك الفترة بما يحدث الآن في ليبيا نجد الفارق الشاسع في كل شيء.. كانت ليبيا فقيرة وليس لها من الموارد من شيء وتعيش على الإعانات الدولية متمثلة في مساعدات النقطة الرابعة الأمريكية وقمح أمريكي وتغذية مدرسية.. واستطاعت الحصول على مبالغ نظير القواعد الأجنبية.. الآن ليبيا تسبح على بحيرة من النفط ولديها إيرادات تبلغ المليارات من الدولارات، لديها مدارس وجامعات ومعاهد وعشرات الآلاف من خريجي الجامعات.. ولكن تفتقر إلى الشرفاء من السياسيين الذين وصلوا إلى مكان يسيطرون فيه على مفاصل الدولة. لو أرادوا بناء الدولة وسعوا له لما واجهوا ما واجهه الآباء و الأجداد من تحديات. لم تستغرق كتابة الدستور تحت إشراف الأمم المتحدة سوي عشرة أشهر ثم أعلن قيام الدولة بإعلان استقلالها.. لم يستطع المؤتمر الوطني الآن وبعد ثلاث سنوات عمل نفس الشيء.. اتفق جميع قادة البلاد في الفترات الحرجة قبل الاستقلال على توحيد القيادة في شخص السيد محمد إدريس السنوسي بالرغم من اختلافاتهم الإيديولوجية. كان همهم طرد المستعمرين الطليان ثم الاستقلال. لم تكن لهم أطماع شخصية ولم يخدموا أجندات أجنبية مثل سياسيي اليوم أو أشباه الثوار أو الثوار المنقلبون على مبادئ الثورة ، الطامعون في مليارات البترول والذين يخدمون مصالح أجنبية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

    لقد آن الأوان لأن نجد الشخص الذي تلتف عليه الأمة بأسرها، إنقاذا لها وللبد الطيب الذي أنجبها.

    لقد آن الأوان لكي ننبذ القبلية و الجهوية والأنانية.

    لقد آن الأوان لكي نعي مدى الدمار الذي سببه نظام الحكم السابق لعقلية الإنسان الليبي فجرده من إنسانيته وأخلاقه المبنية على تعاليم الإسلام والعرف الصحيح والنخوة.

    لقد آن الأوان لكي نتناسى الأحقاد التي أشعلها نظام جائر ورسخها في عقليات الناس على مدى 42 سنة عجاف.. دمر فيها النسل والحرث.

   لقد آن الأوان لكي يعي أتباع النظام السابق أن التاريخ دولة بين الناس، وأنه لا يوجد مخلدون على وجه الأرض . لقد ولت حقبة القذافي إلى غير رجعة ولن يرض الليبيون بعودة المستغلين المجرمين لحكم البلاد مرة أخرى ، وأنه عليهم الانخراط في عملية البناء بدلا من الاعتقاد في نظريات أثبتت فشلها على مدى أربعة عقود من الزمن. لو كانت نظريات العهد السابق صحيحة وسليمة لكانت ليبيا في مقدمة دول العالم بما لديها من إمكانيات مادية ضخمة .. ألا يعي أولئك التابعون لذلك العصر الفاشل فشل تلك الحقبة في تحقيق أي شيء إيجابي لليبيا. أم هم مصرون على التخريب والدمار. لقد سرق من سرق وقتل من قتل وخان من خان، أتركونا وشأننا وتمتعوا بما سرقتم من أموال الشعب الليبي. عندكم المليارات فلماذا لا تضعوها في البنوك وتعيشوا على الأرباح. اتركونا لنبني البلاد التي دمرتموها.

   يا شعب ليبيا الحر .. الذي أصبح حرا بتضحية الشباب والشيب.. يا من وقفتهم ضد الطاغية في عنفوان جبروته وقلتم له ( يكفي يكفي.. اذهب إلى غير رجعة ).. إنكم بما تقومون به الآن تقتلون أنفسكم و تدمرون القواعد التي يجب أن نبنى عليها مستقبل الأجيال القادمة. يا قادة الدروع ويا نواصي ويا قعقاع  ويا ثوار مصراته ويا بني وليد ويا ترهونة ويا ويا ويا .. آن الأوان آن تعقلوا. لن يرضى بعضكم ببعض حاكما على الآخر .. لكل منكم وجهة نظر ولبعض منكم سياسيون يخططون لما لا تعلمون. اتفقوا على رجل ليس منكم ولا منا ولا منهم .. رجل يقود هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ بلادنا. تذكروا بأن ليبيا لا زالت تحت البند السابع للأمم المتحدة ويمكن للنيتو أن يتدخل في أي وقت يشاء. تذكروا بأن ليبيا كانت ستكون تحت وصاية الأمم المتحدة لولا الرجال المخلصين الذين كافحوا للحصول على الاستقلال. هل تريدون أن نخسر ما حققوه ونرجع إلى الوراء، إما تحت وصاية الأمم المتحدة أو تحت احتلال جديد تحت أي مسمى ؟ فكروا معي في الرجل الذي يمكنه قيادة البلاد بموافقة الجميع بمختلف إيديولوجياتهم و آرائهم السياسية. سأفكر معكم وسيكون لنا لقاء قادم بإذن الله تعالى.

المراجع التي استندت إليها في تحليلي وسردي لما كان ولما سيأتي بإذن الله:

 ــ الملك محمد إدريس السنوسي.. حياته وعصره.. للدكتور الحسيني الحسيني معدي .. من منشورات كنوز للنشر والتوزيع.

 ـــ  بحوث ودراسات في التاريخ الليبي منذ أقدم العصور حتى سنة 1911: تأليف مجموعة من الأساتذة والباحثين تحت إشراف الدكتور صلاح الدين حسن السوري و سعيد على حامد.. من بين المؤلفين الأستاذ محمد الجراري، الدكتور محمد علي عيسى، الدكتور خليفة بن ناصر والدكتور عبد السلام محمد شلوف.. وغيرهم. من منشورات المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية طرابلس.

ــ ذكريات معتقل العقيلة للمرحوم إبراهيم العربي الغماري.. من منشورات المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية .. طرابلس. 

ـــ  ليبيا والليبيون في مجالس النواب العثمانية: من تأليف الأستاذ الدكتور أورخان سعد الله كولوغلو، الأستاذ عبد الكريم عمر أبوشويرب . من منشورات المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية/ طرابلس.

ــ محطات من تاريخ ليبيا للمرحوم محمد عثمان الصيد. أحد المسؤولين السياسيين السابقين وريسا للوزراء في العهد الملكي. من منشورات طوب للاستثمار والخدمات .. الرباط.. المغرب

ــ  حقيقة مصطفى بن حليم و هذا ردي على افتراءاته للمرحوم أبي القاسم العربي الغماري.. من منشورات دار الرواد .. طرابلس.